الشخصيات الاسلاميه 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا الشخصيات الاسلاميه 829894
ادارة المنتدي الشخصيات الاسلاميه 103798



الشخصيات الاسلاميه 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا الشخصيات الاسلاميه 829894
ادارة المنتدي الشخصيات الاسلاميه 103798



هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الشخصيات الاسلاميه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:24 pm

الإمام أبو حنيفة النعمان






لم
يختلف الناس على رجل كما اختلف آراؤهم في أبي حنيفة النعمان .. تغالي
البعض في تقديره حتى زعم أنه أوتى الحكمة كلها، وأنه يتلقى علمه عن الرسول
صلى الله عليه وسلم فيما يشبه الرؤيا أو الرؤية! واشتط الآخرون في كراهيته،
حتى لقد اتهموه بالمروق عن الدين، وبالإلحاد والزندقة، وباستيراد المبادئ
الهدامة من الديانات الوثنية ومن عباد النار .. وأعمى العداء آخرين،
فأذاعوا عنه أنه مجوسي مدسوس على الإسلام ليحدث خرقا في الإسلام!! كان هذا
التطرف في الأحكام المتناقضة هو طابع العصر الذي عاش فيه أبو حنيفة، وهو في
الوقت نفسه نتيجة سلوك الشيخ وسيرته واقتحاماته الفكرية الجسور.

ذلك
أنه كان يدعو إلي الأخذ بالرأي لا يبالي في رأيه بأحد .. فقد كان عارفا
بأحوال الحياة، مستوعبا كل ثقافة من سبقوه ومن عاصروه، خبيرا بالرجال،
شديدا على أهل الباطل، مرير السخرية بالمزيفين، لاذعا مع المنافقين من
متعاطي الفقه والعلم والثقافة في عصره .. وهو عصر غريب حقا .. عصر ملئ
بالتطرفات
.. هو
ذلك العصر الباهر من الفتوحات والثراء الفكري .. عصر الأئمة العظام: محمد
الباقر وزيد بن علي وجعفر الصادق ومالك بن أنس والليث بن سعد .. وهو في
الوقت نفسه عصر الصعاليك الكبار، والمنافقين والمزيفين..!! عصر عامر
بالبطولات والأحلام والخطر والغنى الروحي والاقتحام والمتاع..!! عصر يدوي
على الرغم من كل شيء بأصداء المأساة، تفعمه الأحزان، ملتهب بالأشواق إلي
العدل وبالحنين إلي الرحمة والصدق والإحسان وبالشجن! .. في ذلك العصر ولد
أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80 هـ من أسرة فارسية، وسمي النعمان تيمنا
بأحد ملوك الفرس
..
من
أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل ..
حاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا عربيا .. ولكنه كان لا يحفل بهذا كله فقد
كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم
احتضن سلمان الفارسي وبلالا الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة حتى لقد كان
الرسول يقول "سلمان منا أهل البيت" وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول
عن بلال: "سيدنا بلال". ولقد شهد أبو حنيفة في طفولته فظائع الحجاج والي
العراق وبطشه بكل من يعارض الأمويين حتى الفقهاء الأجلاء، فدخل في نفسه منذ
صباه عزوف عن الأمويين واستنكار لاستبدادهم، ورفض للطغيان .. ثم أنه ورث
عن أبيه وأمه حبا لآل البيت فما كان في ذلك العصر رجال ينبذون التفرقة بين
المسلمين العرب وغير العرب إلا آل البيت
.
وقد
تمكن حب آل البيت من قلبه عندما تعرف على أئمتهم وتلقى عنهم، وعندما عاين
أشكال الاضطهاد التي يكابدونها في كل نهار وليل! .. حتى لقد شاهد الإمام
الصادق واقفا يستمع إليه وهو يفتي في المدينة فوقف قائلا: "يا ابن رسول
الله، لا يراني الله جالسا وأنت واقف". وكان أبوه تاجرا كبيرا فعمل معه وهو
صبي، وأخذ يختلف إلي السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول التجارة
وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف إلي العلماء فقال أبو
حنيفة: "إني قليل الاختلاف إليهم" فقال له الفقيه الكبير: "عليك بالنظر في
العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وفطنة". ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى
نفسه للعلم، واتصل بالعلماء ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر يوم في حياته ..
ولكم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي استنفر كل مواهبه
وذكائه وبراعته
!!
وانطلق
الفتى الأسمر الطويل النحيل بحلة فاخرة، يسبقه عطره، ويدفعه الظمأ إلي
المعرفة، يرتاد حلقات العلماء في مسجد الكوفة .. وكأن بعضها يتدارس أصول
العقائد (علم الكلام)، وبعضها للأحاديث النبوية، وبعضها للفقه وأكثرها
للقرآن الكريم .. ثم مضى ينشد العلم في حلقات البصرة. وبهرته حلقة علماء
الكلام، لما كان يثور فيها من جدل مستعر يرضي فتوته. ولزم أهل الكلام زمنا
ثم عدل عنهم إلي الحلقات الأخرى .. فقد اكتشف عندما نضج أن السلف كانوا
أعلم بأصول العقائد ولم يجادلوا فيها، فلا خير في هذا الجدل. ومن الخير أن
يهتم بالتفقه في القرآن الكريم والحديث. وانتهت به رحلاته بين البصرة
والكوفة إلي العودة إلي موطنه بالكوفة، وإلي الاستقرار في حلقات الفقه،
لمواجهة الأقضية الحديثة التي استحدثت في عصره، ولدراسة طرائق استنباط
الأحكام
.
وكان
أبوه قد مات، وترك له بالكوفة متجرا كبيرا للحرير يدر عليه ربحا ضخما،
فرأى أبو حنيفة أن يشرك معه تاجرا آخر، ليكون لديه من الوقت ما يكفي لطلب
العلم وللتفقه في الدين ولإعمال الفكر في استنباط الأحكام .. ودرس على عدة
شيوخ في مسجد الكوفة ثم استقر عند شيخ واحد فلزمه
.. حتى
إذا ما ألم بالشيخ ما جعله يغيب عن الكوفة، نصب أبا حنيفة شيخا على الحلقة
حتى يعود .. وكانت نفس أبي حنيفة تنازعه أن يستقل هو بحلقة، ولكنه عندما
جلس مكان أستاذه سئل في مسائل لم تعرض له من قبل، فأجاب عليها وكانت ستين
مسألة. وعندما عاد شيخه عرض عليه الإجابات، فوافقه على أربعين، وخالفه في
عشرين .. فأقسم أبو حنيفة ألا يفارق شيخه حتى يموت
.
ومات
الشيخ وأبو حنيفة في الأربعين، فأصبح أبو حنيفة شيخا للحلقة وكان قد دارس
علماء آخرين في رحلات إلي البصرة وإلي مكة والمدينة خلال الحج والزيارة،
وأفاد من علمهم، وبادلهم الرأي، ونشأت بينه وبين بعضهم مودات، كما انفجرت
خصومات. ووزع وقته بين التجارة والعلم .. وأفادته التجارة في الفقه، ووضع
أصول التعامل التجاري على أساس وطيد من الدين .. كان أبو بكر الصديق رضي
الله عنه هو مثله الأعلى في التجارة: حسن التعامل، والتقوى، والربح المعقول
الذي يدفع شبهة الربا .. جاءته امرأة تبيع له ثوبا من الحرير وطلبت ثمنا
له مائة .. وعندما فحص الثوب قال لها "هو خير من ذلك" فزادت مائة .. ثم
زادت حتى طلبت أربعمائة فقال لها
: "هو خير من ذلك" فقالت: أتهزأ بي؟ فقال لها: "هاتي رجلا يقومه" فجاءت برجل فقومه بخمسمائة.
وأرادت امرأة أخرى أن تشتري منه ثوبا فقال: "خذيه بأربعة دراهم" فقالت
له: "لا تسخر مني وأنا عجوز" فقال لها "إني اشتريت ثوبين فبعت أحدهما برأس
المال إلا أربعة دراهم، فبقى هذا الثوب على أربعة دراهم". وذهب إلي حلقة
العلم يوما،في المتجر، وأعلمه أن ثوبا معينا من الحرير به عيب خفي، وأن
عليه أن يوضح العيب! .. وظل أبو حنيفة يبحث عن المشتري ليدله على العيب،
ويرد إليه بعض الثمن، ولكنه لم يجده، فتصدق بثمن الثوب كله، وانفصل عن
شريكه .. بهذا الحرص كان يتعامل في تجارته مع الناس، وفي فهمه للنصوص، وفي
استنباطه للقواعد والأحكام
.. وعلى الرغم من أنه كان يكسب أرباحا طائلة، فقد كان لا يكنز المال .. فهو ينفق أمواله على الفقراء من أصدقائه وتلاميذه.
ويحتفظ
بما يكفيه لنفقة عام ويوزع الباقي على الفقراء والمعسرين .. فإذا عرف أن
أحدا في ضيق، أسرع إليه، وألقى إليه بصرة على بابه، ونبهه إلي أنه وضع على
بابه شيئا، ويسرع قبل أن يفتح صاحب الحاجة الصرة .. وكان على ورعه وتقواه
واسع الأفق مع المخطئين .. كان له جار يسكر في الليل ويرفع عقيرته بالغناء
:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وكان
صوت الجار يفسد الليل على أبي حنيفة .. حتى إذا كانت ليلة سكت فيها صوت
الجار السكير، فلما أصبح سأل عنه فعلم أنه في السجن متهما بالسكر .. وركب
أبو حنيفة إلي الوالي فأطلق سراح السكير. وعندما عادا معا سأله أبو حنيفة
"يا فتى هل أضعناك؟
" فقال له "بل حفظتني رعاك الله". ومازال به أبو حنيفة حتى أقلع عن الخمر. وأصبح من رواد حلقات العلم ثم تفقه وصار من فقهاء الكوفة .
وكان
أبو حنيفة يدعو أصحابه إلي الاهتمام بمظهرهم .. وكان إذا قام للصلاة لبس
أفخر ثيابه وتعطر، لأنه سيقف بين يدي الله. ورأى مرة أحد جلسائه في ثياب
رثة، فدس في يده ألف درهم وهمس: أصلح بها حالك "فقال الرجل" لست احتاج
إليها وأنا موسر وإنما هو الزهد في الدنيا. فقال أبو حنيفة: أما بلغك
الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؟ وكان شديد التواضع، كثير
الصمت، يقتصد في الكلام، ولا يقول إذا سئل، وإذا أغلظ إليه أحد أثناء
الجدال صبر عليه. وإذا دخلت إليه امرأة تستفتيه قام من الحلقة وأسدل دونها
سترا، ليحفظها من عيون الرجال، وأجابها عما تسأل .. نبع هذا التقدير الكبير
للمرأة من حبه العميق لأمه، وحرصه الدائب على أن يرضيها، ثم من فهمه
الواعي للإسلام، واتباعه اليقظ للسنة، واجتهاداته الذكية .. وقد قاده
اجتهاده إلي الإفتاء بأن الإسلام يبيح للمرأة حق تولي كل الوظائف العامة
بلا استثناء .. حتى القضاء
!
ولقد
كان في حرصه على إرضاء أمه. يحملها على دابة، ويسير بها الأميال، لتصلي
خلف أحد الفقهاء يرى هو نفسه أن أبا حنيفا افضل منه، لأن الأم كانت تعتقد
بفضل ذلك الفقيه! وكانت الأم لا ترضى بفتوى ابنها أحيانا، فتأمره أن يحملها
إلي أحد الوعاظ، فيقودها إليه عن طيب خاطر .. ولقد قال لها الواعظ يوما:
"كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفة؟" ومع ذلك فقد ظل أبو حنيفة حريصا على
إرضائها، لا يرد لها طلبا، حتى إذا عذب في سبيل رأيه، طلبت منه أمه أن
يتفرغ للتجارة وينصرف عن الفقه وقالت له
: "ما
خير علم يصيبك بهذا الضياع؟" فقال لها: "إنهم يريدونني على الدنيا وأنا
أريد الآخرة وإني أختار عذابهم على عذاب الله". ولكم تحمل أبو حنيفة من
عذاب
!!
كان
مخالفوه في الرأي يغرون به السفهاء والمتعصبين والمتهوسين ويدفعونهم إلي
اتهامه بالكفر، وإلي التهجم عليه، فيقابلهم بالابتسام. ولقد ظل أحد هؤلاء
السفهاء يشتمه، فلم يتوقف الإمام ليرد عليه، وعندما فرغ من درسه وقام، ظل
السفيه يطارده بالسباب، والإمام لا يلتفت إليه، حتى إذا بلغ داره توقف عند
باب الدار قائلا للسفيه: "هذه داري فأتم كلامك حتى لا يبقى عندك شيء أو
يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل داري
"..! كان
خصوم أبي حنيفة صنفين: بعض الفقهاء ممن وجدوا انصراف الناس عن حلقاتهم إلي
حلقة أبي حنيفة، وحكام ذلك الزمان. أما أعداء أبي حنيفة من الفقهاء فقد
كان على رأسهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة
.
كان
أعداؤه فقهاء للدولة في العصر الأموي، حتى إذا جاء العصر العباسي تحولوا
إلي الحكام الجدد، واحتالوا عليهم بالنفاق حتى أصبحوا هم أهل الشورى،
يزينون للحكام الجدد كل ما زينوه للحكام السابقين من طغيان وعدوان وبغي
واستغلال وبطش بالمعارضين .. واصطنعوا من الآراء الفقهية، وقبلوا من
الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ما يسند الطبقة الحاكمة والمستغلين، وما يصرف
الناس عنهم من أمور الدنيا، وعن سياسة حياتهم، لينقطع الناس إلي التقشف،
ويتركوا مستغليهم يستبدون ويعمهون! وكان أبو حنيفة يحتفظ باستقلاله أمام
الحكام فيحترم الحكام .. وهو يلبس أغلى الفراء في الشتاء، ويتحلى طوال
العام بثياب فاخرة، ويتعطر، ويتنعم بالطيبات من الرزق، وبزينة الحياة التي
أحلها الله لعباده .. وكان يقاوم كما قاوم أستاذه وصديقه الإمام جعفر
الصادق من قبل بدعة تزيين التقشف والانصراف عن هموم الحياة، وترك الأمر كله
لطبقة بعينها تملك وتستغل وتحكم وتستبد
!
على أن ميل أبي حنيفة إلي الأئمة من آل البيت أوغر عليه صدور الأمويين والعباسين على السواء. ففي العصر الأموي قالوا "أن
تكون كافرا أو مشركا خير من أن تكون علويا" .. وفي العصر العباسي توالت
المحن على العلويين، وأبو حنيفة يفتي بأن العلويين أصحاب حق .. على أنه مال
إلي العباسيين أول الأمر، وتوسم فيهم الخير، ولكنه إذ وجد الفقهاء الذين
نافقوا الأمويين وزينوا لهم العدوان، هم الذين يشيرون على الخلفاء
العباسيين، أصابته خيبة الأمل فيهم .. ثم أن العباسيين بطشوا بأبناء
عمومتهم العلويين، فساء رأي أبي حنيفة في العباسيين
. وأبو
حنيفة على الرغم من سماحته لا يسكت عن خطأ الفقهاء من الذين جعلوا كل همهم
نفاق الحكام وإرضاءهم .. كان بعضهم يفتي في المسجد إلي جوار حلقة أبي
حنيفة، فإذا أخطأ انبرى له أبو حنيفة يكشف ذلك الخطأ ويعلن الصواب على
الناس
.
وكان
ينتقد أخطاء ابن أبي ليلى نقدا أوغر عليه صدر الرجل .. حتى نقد حكما فاحش
الخطأ فانفجر غضب ابن أبي ليلى .. "وذلك أن امرأة مجنونة قالت لرجل" "يا
ابن الزانيين" فأقام عليها ابن أبي ليلى الحد في المسجد، وجلدها قائمة،
وأقام عليها حدين: حدا لقذف الأب وحدا لقذف الأم. وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال:
أخطأ ابن أبي ليلى في عدة مواضع: أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود في
المساجد. وضربها قائمة والنساء يضربن قعودا. وضرب لأبيه حدا ولأمه حدا، ولو
أن رجلا قذف جماعة ما كان عليه غير حد واحد، فلا يجمع بين حدين
. والمجنونة
ليس عليها حد. وحد لأبويه وهما غائبان ولم يحضرا فيدعيا .. وذهب ابن أبي
ليلى إلي الخليفة يشكو أبا حنيفة، واتهمه بأنه لا يفتأ يهينه، ويظهره للناس
بمظهر الجاهل، وفي ذلك إهانة للخليفة نفسه لأن ابن أبي ليلى إنما ينوب عن
الخليفة في القضاء ويحكم بين الناس
..!
وأصدر
الخليفة أمرا بمنع أبي حنيفة من التعليق على أحكام القضاة، وبمنعه من
الفتوى .. حتى إذا احتاج الخليفة إلي رأي في أمر معقد لا يطمئن فيه إلي
فتاوى الفقهاء من متملقيه، أرسل يستفتي أبا حنيفة، فامتنع عن الفتوى إلا أن
يأذن الخليفة له في أن يفتي للناس جميعا. فأذن له. وعاد يفتي، وعاد ينتقد
الأحكام!. وأراد الخليفة المنصور أن يكتب عقدا محكما فلم يسعفه الفقهاء
الذين يصانعونه، فلجأ إلي أبي حنيفة فأملى العقد من فوره فأزرى الفقهاء من
بطانة الخليفة بما صنعه حسدا من عند أنفسهم. ولكن الخليفة زجرهم، وصرح بأن
أبا حنيفة هو أفقه الجميع، وإن كان يكره مواقفه وآراءه. وعندما وقع خلاف
بين الخليفة المنصور وزوجته لأنه أراد أن يتزوج عليها، أراد أن يحتكما إلي
فقيه، فرفضت الزوجة الاحتكام إلي قاضي القضاة ابن أبي ليلى أو إلي تابعه
شبرمة أو إلي أحد الفقهاء من بطانة المنصور
! وطلبت أبا حنيفة.
وعندما
حضر أبو حنيفة أبدى الخليفة رأيه أن من حقه الزواج لأن الله أحل للمسلم
الزواج بأربع، والتمتع بمن يشاء من الإماء مما ملكت يمينه. فرد أبو حنيفة:
"إنما أحل الله هذا لأهل العدل. فمن لم يعدل فواحدة. قال الله تعالى
:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(النساء،الآية:3).
فينبغي
علينا أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه. وضاق الخليفة بفتواه. ولكنه أخذ
بها. وخرج أبو حنيفة إلي داره. فأرسلت له زوجة الخليفة خادما ومعه مال كثير
وأحمال من الثياب الفاخرة النادرة، وجارية حسناء، وحمار مصري فاره هدايا
لأبي حنيفة. فقال أبو حنيفة للخادم: "أقرئها سلامي. وقل لها إني ناضلت عن
ديني وقمت بذلك المقام لوجه الله. لم أرد بذلك تقربا إلي أحد ولا التمست به
دنيا ورد الجارية الحسناء والثياب والمال والحمار المصري جميعا
.
كان
أبو حنيفة لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويحاول أن يواجه
بالأحكام ما يقع من أحداث، وما يتوقع حدوثه من الأقضية والحالات. الواقع
والمتوقع هما ما كان يعني باستنباط الأحكام لمواجهتها إن لم يجد نصا في
الكتاب أو السنة أو الإجماع. وكان يناصر الفقهاء ببديهة حاضرة يقلب الرأي
على وجوهه، ويفترض، ويستقرئ ويستنبط، ويحسن الخلوص إلي الغاية، والخلاص من
المأزق، ويلزم المناظر الحجة. وهو مع ذلك يقول: "ربما كان ما قلته خطأ كله،
لا الصواب كله
". ولقد
اقتحم عليه الحلقة في يوم عدد من الخوارج على رأسهم قائدهم وفقيههم، وكان
الخوارج يقتلون مخالفيهم. وكانوا يقتلون من أقر علي بن أبي طالب على
التحكيم. كان أبو حنيفة يؤيد عليا ويقره على التحكيم. وخيره شيخ الخوارج
بين التوبة أو القتل، فسأله أبو حنيفة أن يناظروه، فرضى، فقال له "فإن
اختلفنا؟ قال الخارجي نحكم بيننا رجلا .. فضحك أبو حنيفة قائلا: أنت بهذا
تجيز التحكيم." فانصرف عنه الخوارج وتركوه سالما
.
وكم
مرة خرج من المأزق بسرعة بديهته وسعة حيلته وقوة حجته..! ولكنه لم يستطع
أن يفلت من مصائد أعدائه من المرتزقة في بلاط الأمراء .. كانت صلابته،
واحترام الحكام له، وإيثارهم إياه على الفقهاء المرتزقة من بطانتهم، تثير
هؤلاء الفقهاء وتحرك حسدهم .. فأوغروا صدور الحكام حتى أوقعوا به. وحاولوا
أن يقتنصوه بفضائله. إنه لشجاع في الحق .. وإذن فلينصبوا له شركا من جسارته
وتقواه .. إن مواقفه في تأييد آل البيت لتؤجج غضب الحكام عليه. ثم كانت
آراؤه تزيد سخطهم عليه اشتعالا: فقد نادى بالرأي إن لم يكن هناك نص في
الكتاب أو السنة، واتجه في استنباط الأحكام إلي إلحاق الأمور غير المنصوص
على أحكامها بما نص على حكمه في حدود ما يحقق مصلحة الأمة ويتسق مع عرف
البلد وعاداته، إن لم تخالف هذه العادات والأعراف روح الشريعة أو نصوصها
.

أما
عن مواقفه في تأييد آل البيت فقد أعلن أن العلويين أولى بالحكم من
العباسيين، وجاهر بالانحياز إلي العلويين. ولم يكتم هذا الميل قط، وظل
يذيعه بلا تهيب.! على أن الموقف ليس جديدا عليه. فقد أيد ثورة الإمام زيد
بن علي زين العابدين بن الحسين أيام الحكم الأموي. وسمى خرج زيد جهادا في
سبيل الله، وشبهه بيوم بدر وحاول أن يخرج مع الإمام زيد، ولكن كانت لديه
ودائع للناس أراد أن يسلمها لابن أبي ليلى فرفض. ولم يجد أبو حنيفة إلا
ماله يجاهد به فأرسل إلي الإمام زيد مالا كثيرا يمير به جيشه ويقويه. وحين
ولى العباسيون أيدهم أول الأمر، ولكنهم بطشوا بمعارضيهم، وصادروا حرية
الرأي، ونكلوا بالعلويين، ونكلوا عن العدل الذي بايعهم عليه، فأعلن عدم
رضاه عنهم في حلقات الدروس .. وكان المنصور قد جمع رءوس العلويين وسجنهم.
وصادر أموالهم وأراضيهم
.
ثار
العلويون بقيادة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم بن عبد الله، فبعث
المنصور جيشا ضخما ليحصد العلويين. أعلن أبو حنيفة تأييده للثورة، وبكى
مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور في إخماد الثورة والقضاء على قائدها
وفتك بأهل المدينة المنورة الذين أيدوا الثورة .. وكان عبد الله بن الحسن
شيخ أبي حنيفة والد محمد النفس الزكية وإبراهيم في سجن المنصورة يعذب حتى
الموت. وحين مات أعلن أبو حنيفة أن واحدا من افضل أهل الزمان قد استشهد في
سجنه. وبكاه وأبكى عليه. وأما آراؤه التي أشعلت سخط الحاكم وحاشيته عليه
فهي تلك التي استنبطها بالقياس حتى لقد اتهمه بعض الفقهاء من خصومه بأنه
يفضل القياس على الحديث
.
وما
كان هذا صحيحا، فقد رأى أبو حنيفة ظاهرة خطيرة، فأراد أن ينجو بدينه منها،
وينجى معه الناس: ذلك أنه خلال الصراعين السياسي والاجتماعي، انتشر وضع
الحديث خدمة لهذا الجانب أو ذاك، وتأييدا لهذه المصلحة أو تلك، فوقف أبو
حنيفة من الحديث موقف أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق .. تحرى الرواة
وصدقهم، وتحرى معاني الأحاديث، ورفض منها ما يشك في صدق رواتها وتقواهم، أو
ما يخالف نصا قرآنيا، أو سنة مشهورة، أو مقصدا واضحا من مقاصد الشريعة.
وقد فحص الأحاديث الموجودة في عصره وكانت عشرات الآلاف فلم يصح في نظره
منها إلا نحو سبعة عشر
.
وذهب
إلي أن القياس الصحيح يحقق مقاصد الشارع، ويجعل الأحكام أصوب وهو خير من
الاعتماد على أحاديث غير صحيحة .. وللقياس ضوابط هي تحقيق المصلحة وهذا هو
هدف الشريعة. لقد كان تحرج أبي حنيفة وذمته وتقواه هي العوامل التي دفعته
إلي الحذر في قبول الأحاديث إذا شك في صحتها على أي نحو، وكان عليه إذن أن
يجد طريقا آخر لاستنباط الأحكام الجديدة قياسا على أحكام ثابتة في القرآن
الكريم أو السنة الصحيحة أو أقوال الصحابة السابقين من أهل الفتيا كعمر ابن
الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود .. وكان عبد الله بن مسعود
يفضل أن يفتي باجتهاده بدلا من أن يسند إلي الرسول صلى الله عليه وسلم
حديثا لا يرى عين اليقين أنه حديث صحيح
.
وقد
جد في عصر أبي حنيفة كثير من الحوادث والأقضية والأحوال، بعد اتساع الدولة
وتشابك الأمور، وظهور ألوان كثيرة من النشاط التجاري والاجتماعي، وواجه
الإمام هذا كله بالاجتهاد لاستنباط الأحكام التي تضبط العلاقات. وما كان
يبتدع في قياسه كما رماه خصومه، وما كان يهدر السنة كما حاول ابن أبي ليلى
وتابعه شبرمة أن يصوراه كيدا له، بل كان منهجه في استنباط الأحكام في وصية
لأحد تلاميذه ممن تولوا القضاء
.. قال:
"إذا أشكل عليك شيء فارحل إلي الكتاب والسنة والإجماع، فإن وجدت ذلك ظاهرا
فاعمل به، وإن لم تجده ظاهرا فرده إلي النظائر واستشهد عليه بالأصول، ثم
اعمل بما كان إلي الأصول اقرب وبها أشبه
".
وقاده هذا الاجتهاد إلي عديد من الآراء الحرة: الدعوة
إلي المساواة بين الرجل والمرأة، في عصر بدأت المرأة فيه تتحول إلي حريم
للمتاع! فأفتى بأن للبالغة أن تزوج نفسها .. وهي حرة في اختيار زوجها. كما
أفتى بعدم جواز الحجر على أحد، لأن في الحجر إهداراً للآدمية وسحقا للإرادة
.. وأفتى بعدم جواز الحجر على أموال المدين، حتى لو استغرقت الديون كل
ثروته. لأن في هذا مصادرة لحريته .. وفي كل أمر من أمور الحياة تتعرض فيه
حرية الإنسان لأي قيد، أفتى الإمام أبو حنيفة باحترام الحرية وكفالتها، لأن
في ضياع حرية الإنسان أذى لا يعدله أذى .. لقد أفتى بكل ما ييسر الدين
والحياة على الإنسان فذهب إلي أن الشك لا يلغي اليقين، وضرب لذلك مثلا بأن
من توضأ ثم شك في أن حدثا نقض وضوءه، ظل على وضوئه، فشكه لا يضيع يقينه
.
وأفتى بأنه لا يحق لأحد أن يمنع المالك من التصرف في ملكه. ولا
يحق لأحد أن يحكم على مسلم بالكفر ما ظل على إيمانه بالله ورسوله حتى لو
ارتكب المعاصي. ومن كفر مسلما فهو إثم. وأفتى بأن قراءة الإمام في الصلاة
تغني عن قراءة المصلين خلفه، فتصح صلاتهم دون قراءتهم اكتفاء بقراءة الإمام
وحده. ولقد أثار هذا الرأي بعض الناس، فذهبوا إلي الإمام ليحاوروه في رأيه
فقال لهم "لا يمكنني مناظرة الجميع فولوا أعلمكم" فاختاروا واحدا منهم
ليتكم عنهم. وسألهم أبو حنيفة إن كانوا يوافقون على أنه إذا ناظر من
اختاروه يكون قد ناظرهم جميعا، فوافقوا، فقال لهم أبو حنيفة: "وهكذا نحن
اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا وهو ينوب عنا" فانصرفوا مقتنعين
. ودعا
إلي ضرورة العفو عن المخطئ إن لم تثبت عليه أدلة الإدانة ثبوتا قطعيا لا
يشوبه الشك أو الظن، اعتمادا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بدرء
الحدود قدر المستطاع .. فالحدود تدرأ بالشبهات "فإن كان للمذنب مخرج أخلى
سبيله. وأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة
".
وهو
يطالب الناس بأن يسألوا في العلم بلا حرج، على أن يحسنوا السؤال. وكان
يقول: "حسن السؤال نصف العلم". وهو في اجتهاده يعرف مكانته، إذ كان واثقا
بنفسه، معتزا بكبريائه العلمي على الرغم من تواضعه الشديد. ولقد سئل: "إذا
قلت قولا وظهر خبر لرسول الله يخالف قولك؟" قال
: "أترك قولي بخبر رسول الله وكل ما صح عن رسول فهو على العين والرأس. فقال السائل: فإذا
كان قول الصحابي يخالف قولك؟" قال: "أترك قولي بقول الصحابي فقال السائل
"فإذا قول التابعي يخالف قولك؟ قال أبو حنيفة: "إذا كان التابعي رجلا فأنا
رجل". ويروي عنه أنه ذهب إلي المدينة المنورة فجادل الإمام مالك بن أنس
يوما في أمور اختلفا عليها وحضر المناظرة الإمام الليث بن سعد إمام مصر وهو
الإمام الذي عاش في عصر الإمام جعفر الصادق وأبي حنيفة والإمام مالك وقال
عنه أحد الفقهاء المتأخرين إنه حقا أفقه الناس ولكن المصريين أضعوه فلم
يحفظوا فقه واستمرت المناظرة طويلا حتى عرق الإمام مالك. وعندما خرج أبو
حنيفة قال مالك لصديقه الليث: إنه لفقيه يا مصري
!
قام
فقه الإمام أبي حنيفة على احترام حرية الإرادة ذلك أن أفدح ضرر يصيب
الإنسان هو تقييد حريته أو مصادرتها .. وكل أحكامه وآرائه قائمة على أن هذه
الحرية يجب صيانتها شرعا، وأن سوء استخدام الحرية أخف ضررا من تقييدها!
فإساءة الفتاة البالغة في اختيار زوجها أخف ضررا من قهرها على زواج بمن لا
تريده. وسوء استخدام السفيه لماله، يمكن علاجه بإبطال التصرفات الضارة به،
أما الحجر على حريته فهو إهدار لإنسانيته، وهو ضرر لا يصلحه شيء!! وعلى أية
حال فأذى الحجر أخطر من أذى ضياع المال ـ فالحجر إيذاء للنفس، وإهدار
للإرادة، واعتداء على إنسانية الإنسان!! وأبو حنيفة لا يجيز الوقف إلا
للمساجد .. لأن الوقف أو الحبس يقيد حرية المالك في التصرف
.. بل
إن الإمام إمعانا منه في الدفاع عن الحرية لا يجيز للقاضي أن يقيد حرية
المالك، حتى إذا أساء التصرف على نحو يهدد الغير .. وهو يطالب أن يترك هذا
كله للشعور بالتعاون الاجتماعي الذي يجب أن يسود أفراد الأمة .. فيحترم كل
منهم حرية الآخرين، ويمارس حريته بما لا يمس مصالح الغير أو حريته هذا أمر
يجب أن يترك للناس فيما بينهم ولا سبيل للحاكم أو القضاء إلي التدخل لتقييد
حرية المرء في التصرف مهما يكن من شيء.

[center]
ولقد
جاءه رجل يشكو جاره لأنه حفر بئرا بجوار جداره مما يؤثر في بيت الشاكي،
فطلب أبو حنيفة من الشاكي أن يحدث جاره ليردم البئر، ويحفرها في مكان آخر،
فقال الرجل: "حدثته فامتنع ظالما". فقال أبو حنيفة: "فاحفر في دارك بالوعة
في مقابل بئره" وفعل الرجل، فاندفع ماء البئر إلي البالوعة، فاضطر الجار أن
يردم البئر، ويحفرها في مكان بعيد عن جدار الشاكي. وهكذا مضى أبو حنيفة
يوضح للناس ما في تعاليم الإسلام من احترام للحرية والإرادة، معتمدا على
الكتاب، والسنة الصحيحة، والرأي الذي يستنبطه بالقياس، مراعياً تحقيق
المصلحة، أو الأعراف التي لا تتعارض مع قواعد الإسلام ومبادئه. وقد أغنت
آراؤه في الفقه وجدان الناس، وأيقظت ضمائرهم، وحركتهم للدفاع عن حرياتهم في
التصرفات، متمسكين في ممارستهم للحرية بمبادئ الدين وأصوله
.
وكانت
هذه الآراء كلها تناقض روح العصر الذي عاش فيه وهو عصر يقوم نظام الحكم
فيه على تكفير الخصوم، وإهدار دمائهم، وتقييد الحريات، وإطلاق يد الحاكم،
وتمكين ذوي السطوة من الضعفاء. من أجل ذلك اتهمه خصومه من الفقهاء أصحاب
المناصب بالخروج عن الإسلام..! ثم إنه أفتى بتحريم الخروج لقتال المسلمين
والفتك بهم. وبهذا صرف بعض قواد الجيش في عصره عن حرب العلويين وخصوم
الحكام ومعارضي آرائهم.! ومن ذلك أن الحسن بن قحطبة أحد قواد المنصور دخل
على أبي حنيفة يسأله: "أيتوب الله علي؟" وكان الحسن هذا قد قاد جيوشا
للمنصور فقتل العلويين وخصوم العباسيين فقال له أبو حنيفة
: "إذا
علم الله تعالى أنك نادم على ما فعلت، فلو خيرت بين قتل مسلم وقتل نفسك
لاخترت ذلك على قتله، وتجعله مع الله عهدا على ألا تعود لقتل المسلمين، فإن
وفيت فهي توبتك"، فقال القائد إني فعلت ذلك وعاهدت الله على ألا أعود إلي
قتل مسلم" ثم ثار العلويون فأمر المنصور القائد أن يفتك بهم، فجاء القائد
إلي أبي حنيفة يسأله الرأي فقال له أبو حنيفة "فقد جاء أوان توبتك. إن وفيت
بما عاهدت فأنت تائب وإلا أخذت بالأول والآخر
".
فامتنع
القائد عن تنفيذ أمر المنصور، وسلم نفسه إلي العقاب وهو القتل، إذ دخل على
المنصور فقال أنه لن يقتل المسلمين بعد! فغضب الخليفة عليه وأمر بقتله،
حتى استشفع له أخوه قائلا "إننا لننكر عقله منذ سنة، وأنه قد جن". وسأل
الخليفة عمن يخالط القائد المتمرد فقيل: إنه يتردد على أبي حنيفة! وأسرها
الخليفة لأبي حنيفة. على أن خصوم أبي حنيفة انتهزوا الفرصة فأغروا صدر
الخليفة وأوحوا إليه أن يقضي على أبي حنيفة واتهموه بإثارة الفتنة، وتثبيط
قواد الجيش، وتأليب العامة على ولي الأمر، وتكوين حلقة من الفقهاء كلهم
يدعو إلي الثورة على الخليفة. وكان من هؤلاء الخصوم فقيه أفتى للناس بأن
تلاميذ أبي حنيفة خارجون على ولي الأمر ومرتدون عن الإسلام. فأن يقال إن
بالحي خمارا خير من أن يقال إن فيه أحدا من أصحاب أبي حنيفة
.
وكان
منهم فقه آخر عرف وهو في الحج أن أحد أصحاب أبي حنيفة سيصلي بالناس فلم
يستطع كظم غيظه وصاح: "الآن يطيب لي الموت" ..! ورفض أبو حنيفة أن يقبل
المناصب .. عرض عليه الأمويون منصب القاضي، فرفضه فسجنوه وعذبوه في السجن
.. وظلوا يضربونه كل يوم بالسياط حتى ورم رأسه .. ومع ذلك فلم يقبل المنصب
.. لأنه كان يرى أن تحمل المسئولية في عهد يعتبر هو حاكميه ظالمين مغتصبين،
إنما هو مشاركة في الظلم وإقرار للاغتصاب .. وفي السجن تذكر أمه الحزينة
فبكى .. وسأله جاره السجن عما يبكيه وهو الفقيه الجليل الصلب، فقال من خلال
دموعه: "والله ما أوجعتني السياط، بل تذكرت أمي فآلمتني دموعها
".
وساءت
صحته في السجن. وبدأت الثورة تتجمع ضد الخليفة الأموي احتجاجا على ما يحدث
لأبي حنيفة فأطلق سراحه. ولم يعد له مقام في الكوفة التي شهدت عذابه ..
فترك مسقط رأسه، ومرح شبابه، بكل ما فيها من ذكريات عزيزة وآمال عذبة،
وأقام بالحجاز حتى سقطت الدولة الأموية، فعاد إلي موطنه. ولكن العباسيين لم
يتركوه .. فمنذ شعر بخيبة الأمل فيهم لبغيهم واضطهادهم للعلويين،
واصطناعهم المرتزقة من الفقهاء، بدأ يجهر برأيه في استبدادهم وطغيانهم.
ورفض كل هداياهم، كما رفض هدايا الأمويين من قبل. وعرضوا عليه منصب قاضي
القضاة فأبى .. وتمسك بالتفرغ للعلم. قالوا له أنه قد حصل من العلم ما
يجعله في غنى عنه فرد: "من ظن أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه
".
بعد
أن فرغ الخليفة من بناء بغداد، وأقام فيها معتزا بها، حرص على أن يجعل
أكبر فقهاء العراق قاضي القضاة فيها. وكان أبو حنيفة قد أصبح اكبر الفقهاء
بالعراق حتى سماه أتباعه ومريدون: الإمام الأعظم. ولكن الإمام صمم على
الرفض. كان يعرف ما ينتظره .. فأين أبي ليلى لا يكف عن الكيد له، وهو لا
يغفر لأبي حنيفة ما يوجهه من نقد لاذع لأحكامه. وقد ضم ابن أبي ليلى حاجب
الخليفة وزيره الأول، وكان أبو حنيفة قد أحرجه وكشف أكاذيبه أمام الخليفة
في محاورة حاول فيها الوزير الأول أن يوقع بالإمام ففضحه الإمام وأفسد
حيلته. وقد أفتى أبو حنيفة بأن الوزير لا تصح شهادته لأنه يقول للخليفة أنا
عبدك "فإن صدق فهو عبد ولا شهادة له
. وإن
كذب فلا شهادة لكاذب"!! وقد أخذ أحد تلاميذ أبي حنيفة بهذا النظر فيما بعد
حين ولى القضاء فرد شهادة الوزير الأول لخليفة آخر، لأنه قبل الأرض بين
يدي الخليفة قائلا له: أنا عبدك
! اتسعت
الفتوحات حتى أصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية، وحتى ارتفعت
الراية الإسلامية فوق شرق أوروبا وجنوبها والأندلس، وكل بلاد العالم التي
عرفها إنسان ذلك العصر .. وعلى الرغم من ازدهار الحضارة، فقد شغل رجال
الحاشية بالكيد لأبي حنيفة يظاهرهم بعض الفقهاء أصحاب المناصب وأهل الحظوة
عند الخليفة. وأخذ الوزير الأول يكيد عند الخليفة لأبي حنيفة. وانتهز فرصة
خروج أهل الموصل على الخليفة، وكانوا قد شرطوا على أنفسهم إن هم خرجوا على
الخليفة أن تباح دماؤهم وأموالهم. وأرسل الخليفة إلي ابن شبرمة وابن أبي
ليلى ليسألهما رأي الدين في أهل الموصل، وكان قد أعد جيشا للفتك بهم.
واقترح الوزير الأول على الخليفة أن يدعو أبا حنيفة وكان يعرف أن تقواه
وشجاعته وكل فضائله ستقوده إلي مخالفة رأي الخليفة
. وحضر الفقهاء الثلاثة فسألهم عن حكم الشرع في أهل الموصل. وسكت أبو حنيفة وأفتى الآخران بأن أهل الموصل يستحقون الفتك بهم..!
وأفتى
أبو حنيفة بأن الخليفة لا يحق له الفتك بأهل الموصل، لأنهم بإباحتهم
أرواحهم وأموالهم إنما أباحوا ما لا يملكون. وسأل: "لو أن امرأة أباحت
نفسها بغير عقد زواج أتحل لمن وهبته نفسها؟ فقال له الخليفة "لا" .. فطلب
الإمام أبو حنيفة منه أن يكف عن أهل الموصل فدمهم حرام عليه، وأن يوجه
الجيش إلي حماية الثغور، أو إلي فتح جديد لنشر الإسلام، بدلا من أن يضرب به
المسلمين. وضاق به الخليفة وأمره أن ينصرف .. ومن حول الخليفة أعداء
الإمام يستفزونه للبطش به في مقدمتهم ابن أبي ليلى قاضي القضاة وتابعه
شبرمة. ومضى أبو حنيفة إلي داره يقول لصاحب: "إن ابن أبي ليلى ليستحل مني
مالا أستحله من حيوان
!" وفي
الحق أن ابن أبي ليلى وشبرمة والعصابة المعادية لأبي حنيفة في قصر الخليفة
زينت للخليفة أن يقهر أبا حنيفة على قبول ما يعرضه عليه من مناصب، فإذا
أبى فقد امتنع عن أداء واجب شرعي فحق عليه العقاب، ووجب أن يشهر به في
الأمة، لأنه يتخلى عن خدمتها
.!
واقترحوا
على الخليفة أن يبدأ فيمتحن ولاءه، فيرسل إليه هدية .. وكانوا يعرفون سلفا
أن الإمام أبا حنيفة لن يقبل الهدية..! وأرسل له الخليفة مالا كثيرا
وجارية
.. فرد
الهدية شاكرا .. ثم أرسل الخليفة إليه يلح عليه في ولاية القضاة أو في أن
يكون مفتيا للدولة يرجع إليه القضاء فيما يصعب عليهم القضاء فيه .. بما أنه
يكثر من لوم القضاة على أحكامهم، ويكشف للعامة جهل شيخهم ابن أبي ليلى
وتابعه شبرمة! ورفض أبو حنيفة .. فاستدعاه الخليفة يسأله عن سبب رفضه فقال
له: "والله أنا بمأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك
ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو الحكم عليك لاخترت أن أغرق. ثم إن تلك
"حاشية يحتاجون إلي من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك". وكانت الحاشية كلها تحيط
بالخليفة، وعلى رأسها وزيره الأول والفقيهان ابن أبي ليلى وابن شبرمة،
فأبدوا التذمر وبان عليهم استنكار ما يقوله الإمام أبو حنيفة، فقال الخليفة
محنقا: "كذبت
".
فقال
أبو حنيفة في هدوء قد حكمت على نفسك. كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك
وهو كاذب؟! وبعد قليل سأله الخليفة عن سبب رفض هداياه
.. فقال
له أبو حنيفة أنها من بيت مال المسلمين ولا حق في بيت المال إلا للمقاتلين
أو الفقراء أو العاملين في الدولة بأجر وهو ليس واحدا من هؤلاء! فأمر
الخليفة بحبسه. وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاة بغداد. وهاهو ذا
شيخ في السبعين أثقلته المعارك والدسائس والهموم، ومكابدة الفقه والعلم
والتحرج .. هاهو ذا يضرب، ويظل يضرب بالسياط في قبو سجن مظلم، ورسل الخليفة
يعرضون عليه هدايا الخليفة، ومنصب القضاء والإفتاء .. وهو يرفض .. فيعاد
إلي السجن ليعذب من جديد .. ويكررون العرض، وهو يكرر الرفض داعياً الله:
"اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك
".
وظل
في سجنه يعرضون عليه الجاه والمنصب والمال فيأبى .. ويعذب من جديد!
وتدهورت صحته، وأشرف على الهلاك. وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما قاسى
في السجن، فيثور الناس!. وقرروا أن يتخلصوا منه فدسوا له السم. وأخرجوه وهو
يعاني سكرات الموت، وما عاد يستطيع أن يروي لأحد شيئا بعد!! وحين شعر
بأنها النهاية أوصى بأن يدفن في أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله.
وهكذا مات فارس الرأي الذي عرف في السنوات الأخيرة من حياته باسم الإمام
الأعظم. وشيعه خمسون ألفا من أهل العراق واضطر الخليفة أن يصلي على الإمام
الذي استقر إلي الأبد في ركن هادئ من الدنيا لم يشبه غصب، والخليفة يهمهم
: "من يعذرني من أبي حنيفة حيا وميتا؟".
وهكذا
مضى بطل الفكر الشجاع شهيدا لحرية الرأي في محنة من العذاب لم يعرفها أحد
من الفقهاء من بعده حتى كانت محنة الإمام احمد بن حنبل إمام أهل السنة ..
في عصر زري كذلك العصر: عصر تحكمه الدسائس والسموم وسياط الجلادين، على
الرغم من روعة الفتوحات العسكرية، وانتصارات العقل الإنساني، ويبطش فيه
المزيف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:28 pm

الإمام أحمد بن حنبل





صامت
يطيل السكوت والتأمل، حزين يكاد لا يبتسم، وفي وجهه مع ذلك البشاشة وعلى
قسامته الرضا، لا يتكلم إلا إذا سئل فلا يبتدر أحدا بحديث .. حتى إذا جلس
في الحلقة بعد كل صلاة عصر في المسجد الجامع ببغداد، وسأله الناس في أمور
الدين والدنيا انفجر منه علم غزير نافع يبهر السائلين! .. قال عنه بعض
الفقهاء: "أنه جمع العلم كله". وقال عنه بعض العلماء: "إنه ليس من الفقه في
شيء". وقال عنه الإمام الشافعي حين ترك بغداد إلى مصر: "تركت بغداد وما
فيها أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل". وفي الحق أن أحمد بن حنبل ظلم حيا
وميتا
.
أما
حياته فقد كانت نضالا متصلا ضد الفقر، وضد عادات عصره .. فقد حملته أمه
وهي حامل به من "مزو ـ حيث كان يعمل أبوه في جند الخليفة ـ إلى بغداد، ولم
تكد تضع وليدها أحمد حتى مات والده ترك له عقارا عاشت من غلته هي والصغير
.. حتى إذا شب الصغير وزادت مطالبه، عرفت أمه ضيق العيش، ولكن الأرملة
الشابة رفضت أن تتزوج على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها، ووقفت
حياتها على تربية وحيدها أحمد فأحسنت تربيته ودفعت به إلى مقرئ ليعلمه
القرآن فختمه وهو صبي وظل حياته كلها يعاود قراءته والتفكير فيه
..
وعندما
وثبت به الحياة إلى الفتوة وجد من حوله دنيا عجيبة حقا، تطغى فيها البدعة
على السنة، ويشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب
والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وعلى مقربة منهم يسقط بعض النساء
والرجال في حمأة العار بحثا عن الحياة الأفضل أو عن الطعام وسط أو حال
النفاق والخطيئة..! وأصوات خادعة أو مخدوعة تحبب الناس في الانصراف عن
طيبات الحياة مما أحل لهم، باسم الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لها
ضميها أو مغتصبيها
!..
ووسط
هذه النداءات المنكرة التي لم يعرفها السلف قط، تزف عروس إلى ابن الخليفة
الذي يجب أن يعيش كما يعيش أواسط الناس من رعيته، فإذا بكل رجل من المدعوين
إلى حفل الزفاف من كبار القوم يسلم رقعة هي صك هبة: بضيعة وجارية ودابة ..
فضلا عن الدار المنثور!!.. أما سائر الناس فتندثر عليهم الدنانير والدراهم
وحقاق المسك والعنبر!! هكذا طالعت الدنيا شابا حفظ القرآن صغيرا وتدبر في
أحكامه وتعلم علم الحديث، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى
كل ما يحدث بدعة ونذر نفسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم
.. فاتهموه بالتزمت!
وهكذا عاش حياته..!
أما
بعد موته فقد ابتلى ببعض اتباع نسبوا إليه ما لم يقل ولم يصنع وفرعوا على
أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن
المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكرا، ويغرضون ما يتخيلونه
سنة، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرهم الناس ونسبوهم إلى
الحماقة وضيق الأفق وسخروا بهم، وأزروا على مذهبهم .. وأصبحت كلمة الحنبلى
أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم!! ولقد كتب ابن الأثير
يصف ما كان يحدث من نفر من اتباع الإمام أحمد سنة 323 من الهجرة: "وفيها
عظم أمر الحنابلة، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء. واعترضوا في
البيع والشراء
. ومشى
الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا ذلك سألوا الرجل عن التي معه من هي
فأخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأزعجوا
بغداد
.".
وما
كان الإمام أحمد ليزعج أحدا، وما كان فظا ولا غليظ القلب بل كان يجادل
بالتي هي احسن وكان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة إعمالا
لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وما كان الإمام أحمد
متعصبا لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح حتى
لقد نهى عن كتابة فقهه لأنه كثير العدول عن آرائه..! وما كان ضيق الأفق، أو
جامد الفكر، أو منقبا عن عيوب الناس
.. وما
كان الإمام أحمد من هذا كله في شيء. فقد كان من أوسع الناس أفقا، ومن أعمق
العلماء إدراكا لروح الشريعة، ومن أكثر الفقهاء تحريرا لها من الجمود
وتحررا بها في المعاملات
.
ولكنه
عاش في عصر تغشاه البدع ويسوده الترخص الذي قد يزلزل عمود الدين فكان عليه
أن يأخذ الكتاب بقوة..! .. ولقد قال عنه أحد معاصريه: "ما رأيت في عصر
أحمد بن حنبل ممن رأيت، اجمع منه ديانة وصيانة وملكا لنفسه، وفقها وأدب
نفس، وكرم خلق وثبات قلب وكرم مجالسة وأبعد عن التماوت. ولد أحمد بن حنبل
في بغداد عام
164 هـ من أبوين عربيين .. مات أبوه وهو طفل وترك له معاشا ودارا يسكنها هو وأمه وعقارا يغل غلة لهما قليلة..
وكان
عمه يعمل في خدمة الخليفة الرشيد، ويجمع أخبار بغداد ويلمسها إلى والي
البريد (الأمير المسئول عن البريد) ليوصلها إلى الخليفة إذا كان الخليفة
خارج بغداد .. وانقطعت أخبار بغداد عن الخليفة فأرسل إلى الوالي يسأله،
فسأل الوالي عم أحمد، وكان أحمد غلاما صغيرا، وكان عمه يرسله بالأخبار إلى
الوالي .. فسأله عمه: "ألم أبعث الأخبار إلى الوالي؟ فقال: نعم، فقال عمه:
"فلأي شيء لم توصلها؟" قال أحمد: "رميت بها في الماء! .. أأنا أوصل
الأخبار؟
!".
وحين
سمع الوالي بما كان من أمر أحمد والأخبار قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون
.. هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟". على هذا الورع نشأ أحمد بن حنبل، حتى أن
نساء الجند الذين سافروا مع الرشيد في الغزو كن لا يجدن فتى غيره يثقن فيه،
فيقرأ لهن رسائل الأزواج، ويملينه الردود .. ولكنه كان لا يكتب الكلام
الفاحش الذي قد تمليه بعض الزوجات المشوقات إلى الأزواج
..!
ولقد
أدرك منذ نشأ أن أمه تعاني في سبيل توفير حياة كريمة له، وأنها ترفض
الخطاب من أجله، فحرص على أن يعوضها، وبذل كل جهده في الدرس حتى حصل علوما
ومعارف كثيرة في سن صغيرة معتمدا على نفسه. قال أحد جيرانه: "أنا أنفق على
ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن
حنبل غلام يتيم .. انظروا كيف أدبه وعلمه وحسن طريقته!". على أن الفتى شعر
أنه أصبح هما ثقيلا على أمه .. وإن كان قد احسن مكافأتها بانقطاعه على
الدرس، وذيوع أمره بين الأساتذة والتلاميذ
..
وكان
أحمد قد رأى أمه تبيع درتين لتعينه على طلب العلم، فألي بينه وبين نفسه
ألا يجشمها مالا بعد. وأراد أن يوفر لأمه ما ترك أبوه من غلة العقار الذي
مات عنه وهو بناء كبير يحوي عدة حوانيت تغل كلها سبعة عشر درهما في كل
شهر..! .. وكان في أحد هذه الحوانيت نساج فتعلم منه وعاونه، فقد حفظ أحمد
فيما يحفظ من أحاديث أن أطيب ما يأكله الإنسان هو ما يكسبه من عمله
.. وكان أحمد حفيا بالسنة حريصا عليها، من أجل ذلك حرص على ألا يأكل إلا من عمل يده..!
على
أن عمل يده لم يكن يكفيه للطعام ولمواجهة أعباء الحياة، منذ صمم على أن
ينزل لأمه عن غلة العقار الذي مات عنه أبوه، فلجأ إلى الاقتراض ولقد أدرك
بعض دائنيه ضيق حاله فأبى عليه رد الدين قائلا: "ما دفعتها وأنا أنوي أن
آخذها منك
" فقال
له أحمد: "وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي أن أردها إليك". على أن الحياة
كانت تثقل عليه بمطالبها في بعض الأحايين، فلا يجد طعاما .. فيذهب إلى
المزارع والبساتين، ليلتقط ما نزل على الأرض خارجها من الثمرات .. وقد هدته
تجربته الخاصة إلى أن هذا الزرع يجب أن يباح لمن يحتاج إليه .. وإلى هذا
المبدأ انتهى في فقه
.. على ألا يدخل ذو الحاجة ملك الغير ليأكل، إلا بإذن المالك ..
ولكم
صقلته المعاناة وهدته إلى قواعد في الفقه وإلى أحكام وفتاوى!.. ذلك أنه
كابد ضراوة الحاجة، وعرف أحوال الناس، واحتيالهم على الحياة، وذاق من
البأساء، وعرف أهوال الأسواق..! وقد أكسبه هذا كله بصرا بالناس وفهما
بالناس وفهما للدنيا، وتقدير لمتطلبات الحياة وضرورتها، ونبض كل أولئك فيما
احدث من فقه ورأي .. ثم الرحلة في طلب العلم. ولكم لاقى في هذه الرحلات من
أهوال!! قام بمعظمها على قدميه إذا لم يكن يجد أجر الدابة .. وعمل في
بعضها حمالات ليعول لنفسه .. وعمل في بعضها نساخا، وكان حسن الخط ..
وأكسبته كل هذه التجارب خصوبة فكر
..
وهو
في كل ما يعرض له يرفض العطاء، ويصمم على ألا يأكل إلا من عمل يده .. كان
كثير الرحلة إلى اليمن يطلب الحديث من أحد علمائها، ورأى الشافعي حين كان
ببغداد رقة حال أحمد، وعناءه في رحلاته إلى اليمن، وكان المأمون قد طلب من
الشافعي أن يختار له قاضيا لليمن فعرض الأمر على تلميذه أحمد، فأبى .. فلما
ألح عليه الشافعي قال له أحمد: "إن عدت إلى هذا لا تراني أبدا
".
بدأ
أحمد في طلب الحديث وهو في مطلع الشباب .. في الخامسة عشرة من عمره .. وظل
سبع سنوات يتلقى الحديث على شيوخه في بغداد، ثم سافر في طلبه وهو في مطلع
شبابه في الثانية والعشرين .. سافر يلتمس الحديث عن شيوخ البصرة، فأقام
عاما، ورجع بعده إلى الحجاز، وهناك سمع للشافعي بالمسجد الحرام، فقال لصحبه
الذين قدموا الحجاز معه: "إن فاتنا علم هذا الرجل فلن نعوضه إلى يوم
القيامة
".
ثم
عاد إلى بغداد، وعاد مرة أخرى إلى الحجاز .. وهناك سمع من الإمام مالك
والإمام الليث بن سعد المصري وآخرين، ثم سافر إلى اليمن ليلزم شيخه عبد
الرازق بن همام، وكان قد التقى به في الحج، ووجد عنده كثيرا من الأحاديث،
فآثر أن يلزمه باليمن فيتلقى عنه .. ولقد حاول عبد الرازق أن يصله ببعض
الدنانير، ولكن أحمد بن حنبل أبى .. وصمم على أن يكسب عيشه بعمل يده فاشتغل
نساخا .. وتوالت رحلاته إلى خراسان وفارس وطرطوس .. وإلى كل مكان يسمع أن
فيه راوية حديث
..
كان
أحمد قد تعلم الحديث أول ما تعلم من أبي يوسف أحد أصحاب أبي حنيفة .. وكان
أبو يوسف قاضي قضاة الدولة، وله حلقة درس يعلم فيها الناس .. وقد بهر أحمد
بعلم أبي يوسف، وأعجب بجرأته في الحق .. وكان أحمد لا يفتأ يذكر بإكبار ما
صنعه أبو يوسف مع وزير الخليفة، إذ رد شهادة الوزير قائلا: "لا نقبل شهادة
الوزير لأنه قال للخليفة أنا عبدك!.. فإن كان صادقا فهو عبد ولا تقبل
شهادة العبد، وإن كان كاذبا أو منافقا، فلا شهادة لكاذب أو منافق
!".
على
أن أحمد بن حنبل على الرغم من إكباره لأستاذه أبي يوسف، لم يجد عنده كل ما
يريد من حديث .. فقد كان أبو يوسف من أصحاب الرأي .. وأحمد بعد أن حفظ
القرآن يريد أن يحفظ كل الآثار التي خلفها الثقات من رواة الأحاديث
.. فما
ترك أحمد أبا يوسف قاليا له، فقد شارك أبو يوسف في صياغة وجدان أحمد
وضميره الديني والاجتماعي، ولكنه ترك بحثا عما عند غيره وهو على مودة معه.
ودرس علي عبد الله بن المبارك، وكان فقيها واسع العلم، واسع الغنى في آن
واحد .. ولقد حاول ابن المبارك أن يعين أحمد بن حنبل بالمال، ولكنه أبى
وقال إنه يلزمه لفقهه وعلمه لا لماله، بل على الرغم من ماله
!!
وقد
تعود ابن المبارك أن ينفق كل دخله على الصدقات وطلاب العلم. وكان زاهدا ..
والزهد عنده التقوى .. يعلم الناس أن العالم الذي يشيع علمه بين الناس
افضل ألف مرة من الذي ينقطع للعبادة .. وقد حكى أحد معاصريه أنه رأى بعيرين
يحملان دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك، وكان يطعم الناس الفالوذج، ويأكل
هو الخبز والزيت، فإذا اشتهى طعاما ما طيبا لم يأكله إلا مع ضيف
.. ويقول:
"بلغنا أن طعام الضيف لا حساب عليه." .. وقيل له: "قل المال فقلل من صلة
الناس" فقال: "إن كان المال قد قل، فإن العمر قد نفد." وكان يقول: "ليس
يلزمني من الدنيا إلا قوت يوم فقط" .. من أجل ذلك أحب الناس عبد الله بن
المبارك، والتفوا حوله حتى إنه قدم الرقة وبها هارون الرشيد، فاجتمع الناس
وتزاحموا احتفالا به حتى
"تقطعت
النعال وارتفع الغبار"، فأشرفت زبيدة زوج هارون الرشيد من قصرها، فلما رأت
زحاما لم تره قط سألت: "ما هذا؟" قالوا "الفقيه العالم عبد الله بن
المبارك". فقال
: "والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسوط والعصا والشرطة والأعوان" ..
وكان
أحمد من المعجبين بالعالم عبد الله بن المبارك، كان معجبا بشخصه وبفقه
وعلمه وبسيرته بين الناس .. وعبد الله بن المبارك هو أحد الذين أثروا في
أحمد بن حنبل وفي تشكيل فكره وسلوكه ومواقفه .. فقد أدرك أحمد في مطلع
شبابه مما تعلمه من ابن المبارك أن الدعوة إلى الفقر ليست زهدا، وإنما هي
تمكين للأغنياء من المال، ليكون المال دولة بين الأغنياء .. وأن الزهد الحق
هو ما سنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وتابعه فيه أئمة الصحابة من بعده
.. وليس الإعراض عما أحل الله، بل التعفف عن النظر أو التفكير فيما حرمه
الله أو اشتهاء ما يكرهه
.. الزهد هو التقوى.
تحمل
أحمد المشقات، وخاض الغمرات، بحثا عن الأحاديث الصحاح يواجه بها ألوان
البدع .. ثم إنه خرج إلى طرطوس مرابطا مستعداً للجهاد، ولبث فترة هناك ثم
عاد إلى بغداد، فقد كان يرى الجهاد فريضة على كل قادر: الجهاد بالنفس أو
المال أو بهما جميعا. كان العصر زاخر بالعلوم والمعارف، وكان الفقهاء من
قبله يعنون بها ويتعلمونها، ولكنه لم يجد منهم أحد يتخصص في علوم الحديث،
ويتوفر على الآثار وحدها، فوهب نفسه لإتقان علوم السلف فحسب، لأنه شعر بأن
الأمة في حاجة إلى هذا التخصص
.
وظل
يرحل ماشيا في طلب الحديث إكبارا للغاية التي يسعى إليها أو عجزا عن
النفقة، يحمل فوق ظهره متاعه وكتبه، ويؤجر نفسه للعمل إن نفد زاده .. حتى
جمع آلاف الأحاديث، وهو ما يفتأ على الرغم من ذلك يجوب الآفات، حتى نحل
جسده، فلامه في ذلك أحد أصدقائه قائلا: "مرة إلى الكوفة ومرة إلى البصرة
ومرة إلى الحجاز ومرة إلى اليمن؟! .. إلى متى؟!" فقال أحمد: "مع المخبرة
إلى المقبرة
."
وما
كان لينتهي مهما تكن المشقة .. فقد كان يطلب من الحديث علوم الفقه .. كان
يطلب فقه الخلفاء الراشدين، وفقه سائر الصحابة، وفقه التابعين وتابعيهم
بإحسان .. وقد جلس في رحلاته إلى الحجاز في مواسم الحج إلى كل فقهاء عصره
.. في المسجد الحرام، وفي الحرم النبوي
.. على
أن أحدا لم يجذبه كما جذبه الشافعي!.. واتصلت بينهما المودة منذ لقيه لأول
مرة في المسجد الحرام .. وكان أحمد في نحو الثانية والعشرين والإمام
الشافعي يكبره بنحو ستة عشر عاما، ومع ذلك فقد أحس بأن الشافعي ليس أستاذا
ومعلما فحسب، ولكنه أب أيضا
..!
وعلى
الرغم من أن أحمد بن حنبل درس في مطلع شبابه علي أبي يوسف وهو من أصحاب
الرأي، ثم درس علي الشافعي ولزم فقهه وهو وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي،
فقد كان أحمد حريصا في حياته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصا
جعله يتشبه به في كل أمور الدين والدنيا، فما حفظ حديثا عن الرسول عليه
السلام إلا عمل به .. وحتى قرأ أنه عليه الصلاة والسلام تسرى بمارية
القبطية، فذهب إلى امرأته، وأعلمها بما علم، واستأذنها أن يتسرى، أسوة
بالرسول صلى الله عليه وسلم فأذنت، فاشترت هي له جارية ترضاها
..!
وهكذا
كان في بره لأمه .. كان بالطبع برا تصنعه الفطرة، ثم اتباعا للسنة، فقد
حفظ أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أحق الناس بالرعاية فأجاب
سائله "أمك" .. وأعاد السائل سؤاله مرتين: فأجابه: "أمك ثم أمك ثم أبوك" ..
وفي الحق أن أحمد بن حنبل كان مدينا لأمه بكل شيء .. فقد رفضت أن تدخل
عليه زوج أم، على الرغم من جمالها وشبابها وطمع الخطاب فيها .. ثم إنها
لقنته منذ صباه كل ما حفظه من سير، وأحاديث، وقصص بطولات .. ورسخت في
أعماقه منذ كان طفلا قيم الإسلام الفاضلة
..
فهي كأبيها من بني شيبان، وكانت تحفظ مفاخر قومها، وقصص العرب، ومآثر الرسول والصحابة وتلقنها وحيدها .. وهي
التي اختارت له المكتب الذي يتعلم فيه القرآن، ثم الشيوخ الذين يجلس إليهم
بعد أن حفظ القرآن، ليطلب عندهم الحديث والفقه. وكانت تخاف عليه وهو صغير
برد الفجر إذا خرج إلى الدرس قبل الأذان .. وقد روى أحمد: "كنت ربما أردت
البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: "حتى يؤذن المؤذن للفجر أو حتى
يصبح الناس
"..
حتى
إذا كان في الخامسة عشرة، جاء إلى بغداد عالم عظيم، وأقام على الضفة
المقابلة لدار أحمد بن حنبل، وفاض نهر دجلة وارتفع الموج حتى ترك الرشيد
قصره ونزل بأهله وأمواله وحاشيته إلى سفائن له، ولكن طلاب العلم هرعوا إلى
العالم على الضفة الأخرى في الزوارق .. وأبى أحمد حين دعاه زملاؤه إلى
العبور قائلا: "أمي لا تدعني اركب الماء في هذا الفيضان" .. وترك العبور في
حسرة، وعاد إلى أمه لتطمئن عليه
..!
لكم
كان برا بوالدته! .. رآها رفضت الزواج لكي تتفرغ للعناية به، فأبى هو
الزواج ليفرغ للحدب عليها .. فما تزوج إلا بعد أن ماتت، وكان قد بلغ
الثلاثين، لكيلا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة على الدار!.
وهاهو ذا في بغداد شاب جاوز الثلاثين، محفوف الشارب، مرسل اللحية، أسمر
الوجه، تلوح في وجهه الأسمر سكينة وطمأنينة، ويشع من عينيه بريق حاد، نحيل
الجسد، متوسط الطول، مثقل القلب بما يحدث من حوله .. كثير التأمل في أحوال
الناس، مأخوذ بالبحث عن الخلاص، مشدود إلى الحقيقة، وإلى طريق العباد مما
هم فيه
..
وما أبشع ما هم فيه!
ذلك
أنه منذ صباه شهد بغداد تزخر بألوان الثراء الثقافي والمادي وتتصارع فيها
المذاهب الفكرية والفقهية والعلمية، وترتفع فيها القصور المحفوفة بالحدائق
والزرع وجنات الفاكهة والريحان، وتفيض فيها الأموال والنزوات، وفي بغداد مع
ذلك من لا يجد قوت يومه
! .. وما
بهذا أمر الله ورسوله!. فقد ورث المؤمنون عن الرسول موعظة يتحتم عليها أن
يتدبروها: أنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جوعان! .. وكم في بغداد من بيت
بين الناي والعود والعزف والشراب والطعام والقصف، والجيران جياع
..!!
ثم
إن بغداد التي مازالت لياليها تضيء بآثار السلف الصالح، وبالتماعات أفكار
المجتهدين، بغداد هذه تجللها المعصية والمظالم .. إذ شاع الانحراف، وظهر
الغزل بالمذكر!! وقد أحرق أبو بكر الصديق من قبل قوما تعاطوا هذا المنكر في
الشام!! ثم إن أموال الدولة تنفق بلا حساب على الندامى والمغنيات وأهل
الطرب والمضحكين والمنافقين
..!!
وهذه
الدولة العظيمة التي تحكم العالم، وتصوغ حضارة لم يعرفها التاريخ من قبل،
وتسخر عقول المفكرين والعلماء فيها كل شيء لراحة الإنسان، وتقتحم هذه
العقول عوالم الأفلاك في جسارة نادرة لتصبح الطبيعة أمام الإنسان كتابا
مفتوحا، طاقاتها ميسرات لفكره .. هذه الدولة التي حملت كل المعارف والكتب
التي وجدتها في البلاد المفتوحة، فعربت كل معطيات الحضارة المصرية
واليونانية والفارسية والهندية، وأضافت إليها
.. هذه
الدولة نفسها لا تقيم العدل كما يجب .. وتسمح لنفسها بأن تقتل اكبر
شعرائها بشار بن برد، لأنه نقد الخليفة المهدي وقال عنه "خليفة الله بين
الزق والعود
" .. فتحرق الدولة أشعاره وتفتري عليه ما لم يقله، لتتهمه بالإلحاد والزندقة، وتضربه حتى يموت!!
وهذه
الدولة تسمح لامرأة الرشيد بأن تتدخل في القضاء!! .. ذلك أن وكيل امرأة
الرشيد اشترى لها جمالا من رجل من خراسان بثلاثين ألف درهم، وكان الخراساني
قد ساق الجمال ليبيعها في بغداد. واستلم وكيل امرأة الرشيد الجمال، وماطل
في دفع الثمن، وعطل الخراساني عن السفر .. ثم أعطى الخراساني ألفا ولم يدفع
الباقي
.. فشكاه الخراساني إلى القاضي، فأمر الوكيل بأداء باقي الثمن، ولكنه قال إنه على السيدة أم جعفر امرأة الرشيد، فقال له القاضي:
"
يا أحمق! تقر ثم تقول على السيدة؟!" .. وأمر القاضي بحبس الوكيل.
وعلمت امرأة الرشيد فقالت للرشيد: "قاضيك
هذا أحمق. حبس وكيلي واستخف به، امنعه من نظر القضية" فأجابها الرشيد،
وأطلق سراح وكيلها، ووجه إلى القاضي يمنعه من النظر في الدعوى!! .. ثار
القاضي حين علم بإطلاق سراح الوكيل، فلزم بيته، وامتنع عن حضور مجلس القضاء
.. ولكنه حين علم أن الرشيد سيمنعه من نظر الدعوى، خرج من داره، وأرسل إلى
الخراساني أن يحضر شهودا ويلحق به في مجلس القضاء .. وجلس القاضي ينظر في
الدعوى ويسأل الشهود ويستجلي بينات الخراساني .. وحكم للخراساني بالمال كله
.. وأخذ يسجل الحكم
..
ثم جاء خادم أم جعفر امرأة الرشيد يقول للقاضي: "عندي لك كتاب من أمير المؤمنين" فقال له القاضي: "مكانك نحن في حكم شرعي .. مكانك حتى نفرغ منه". فقال الخادم: "كتاب أمير المؤمنين" فقال القاضي: "اسمع ما يقال لك".
ومضى
القاضي يسجل الحكم وأسبابه حتى فرغ، فأخذ كتاب أمير المؤمنين، وكان فيه
كما يعلم قبل أمر بتنحيته عن نظر القضية .. فلما قرأ القاضي كتاب الرشيد
قال للخادم: "أقرئ أمر المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه ورد وقرأته وقد
أنفذت الحكم". فقال الخادم: "قد عرفت والله ما صنعته. أبيت أن تأخذ كتاب
أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد .. والله لأبلغن أمير المؤمنين بما فعلت"
قال القاضي: "قل له ما أحببت
".
كان
أحمد بن حنبل يتأمل في التدخل في القضاء ويتألم!! ترى كم من القضاة يستطيع
أن يصنع كما صنع القاضي حفص بن غياث..؟! من الحق أن الرشيد ضحك عندما سمع
ما فعله القاضي حفص بن غياث، وأمر له بجائزة قدرها ثلاثون ألف درهم مما جعل
القاضي يقول: "الحمد لله كثيرا من قام بحقوق الشريعة ألبسه الله رداء
المهابة" .. ولكن الخليفة لم يعاقب وكيل امرأته، لأنه حاول أخذ الجمال من
الخراساني دون أن يدفع ثمنها .. ولم يمنع امرأته من التدخل في القضاء! ومن
يدري فربما كانت هناك مظالم كثيرة أخرى لم يتقدم بها أصحابها إلى القضاء ..
أو لعل من القضاة من لم يغامر كما غامر القاضي حفص
!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:28 pm

هكذا
كان أحمد بن حنبل يرى صور الفساد ويأسى ويفكر في الخلاص .. فالحكام يسرقون
ويقطعون يد السارق .. ومن العلماء من ينهي عن المنكر ويقترفه .. حتى صح
فيهم ما قاله ذو النون المصري: "كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضا
للدنيا وتركا لها. واليوم يزداد الرجل بعلمه حبا للدنيا وطلبا لها .. كان
الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكتسب الرجل بعلمه مالا. كان يرى على صاحب
العلم زيادة في باطنه وظاهره واليوم يرى على كثير من أهل العلم فساد في
الباطن والظاهر
."
لا
إلا باللجوء إلى السنة واتباعها .. وإلا بالتأسي بسيرة السلف الصالح، وعلى
رأسهم الخلفاء الراشدون. بما فيهم علي بن أبي طالب. وكان أحمد يعرف أن أشد
ما يغيظ حكام بني العباس هو نشر فقه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
.. ذلك أن كثرة الثناء على الإمام علي، يثير بني أمية، ثم على خلفاء بني
العباس، وحدثت فيهم من أجل ذلك مقاتل عظيمة .. ومن لم يقتل من بني علي ..
عاشوا يرسفون في أغلالهم تحت الأبراج
.
وكان
فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، في صدور قلائل من العلماء أكثرهم من
الشيعة. ثم أذاع آراءه وأفكاره منها بنو العباس أبناء عمومته في محاربة
مظالم بني أمية .. ولكن بني العباس خشوا أن يستعملها المعارضون في نقدهم،
وخافوا أن يكتسب بها المعارضون حب الناس وتأييدهم .. وهكذا أخفى حكام بني
العباس أقضية الإمام علي وفتاواه وفقهه .. واستخفى بها الصالحون
!! .. وكان
العباسيون كالأمويين لا يطيقون معارضة .. فما ترتفع رأس بالشكوى أو النقد
أو الاعتراض، حتى يهوى على عنق صاحبها سيف الجلاد، أو يخرس لسانها في
غيابات السجون تحت وطأة عذاب غليظ أليم شديد
..!
ولكن
أحمد بن حنبل ما كان يستطيع أن يتجاهل سيرة علي بن أبي طالب ولا أفكاره
لتكون من بعد سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن يريد أن يعتبر
بآثار السلف الصالح. بحث الإمام أحمد عن فقه وأقضية الخلفاء الراشدين،
فأعجب بما عرفه من فقه الإمام علي كرم الله وجهه، وبدأ ينشره ويستشهد به ..
فوجد عليه خلفاء بني العباس وجدا شديدا، وأهمهم أمره!! ولكنهم لم يظهر
الغضب عليه، فما كان أحمد يعمل بالسياسة، وما كان رأيه في الخلافة ليزعجهم،
بل إن هذا الرأي على النقيض يرضي خلفاء بني العباس. ذلك أن أحمد كان يرى
وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا .. فطاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التي
لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها
أعداء الإسلام
!!
وكان لا يشترط لصحة الخلافة إلا أن يكون الخليفة من قريش وإلا أن يبايعه الناس. والبيعة شرط جوهري لقوله تعـالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } (الشورى،الآية:38)فإذا
تغلب أحد على منصب الخليفة وإن لم تكن الخلافة حقا له، وبايعه الناس
بالخلافة، وجبت طاعته أيا ما يكن أمره من العدل أو الظلم والفجور أو التقوى
.. ويقول أحمد في ذلك: "السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر
والفاجر، ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف وسمى أمير
المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر .. ومن خرج
على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس قد اجتمعوا عليه،
"وأقروا
له بالخلافة بأي وجه من الوجوه كان، بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا
المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
."
وهو
مع ذلك لا يقر السكوت عن الخليفة الظالم، ولكنه يرى أن النصح له أولى من
الثورة عليه..! .. وهو يرى النصح فرض كفاية على كل أصحاب الرأي والعلم، فإن
قام به بعضهم سقط الفرض الشرعي عن الجميع، وإن لم يقر به أحد أثم الجميع
.. ومن عجب أن أحمد الذي فرض على الناس طاعة الخليفة وإن كان فاجرا، نأى
بنفسه عن الاتصال بالخلفاء، ورفض أموالهم، وأبى أن يتولى منصبا في ظل أحدهم
على الرغم من حاجته الملحة إلى المال .. لأنهم ظالمون
!!
وقد
هاجم بعض المفكرين من معاصري أحمد آراءه في الخلافة .. واتهموه أنه ينسب
إلى الرسول والصحابة نقيض آرائهم، فالرسول يأمر أنه لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق، ويحذر المسلمين أن يسكتوا على الظلم والفجر، لأنهم إذا سكتوا
عنه عمهم الله بالعقاب .. والصحابة قوموا أولياء الأمر منهم وردوهم إلى
الصواب .. ثم إن هؤلاء المفكرين اتهموا أحمد بالدعوة إلى الإذعان والرضا
بالظلم وبالمعصية
..
غير
أن أحمد رد عليهم أن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين فلم يدعوا
الرعية إلى الخروج عليهم .. وهو إنما يدعو إلى الطاعة مع استمرار النصيحة،
لا إلى السكوت عن المظالم .. وإذا كانت طاعة الحاكم الظالم ظلما، فالخروج
عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة، وفي الفتنة تنتهك الحرمات، وتهدر
دماء الأبرياء كما حدث في كل الثورات في العصر الأموي والعباسي..! ومهما
يكن من شيء، فما تجرأ أحد من معاصري أحمد على اتهامه بأنه ينافق الخلفاء،
ولكنهم عابوا رأيه، واعتبروه خطأ في تقدير ضررين أيهما أقل، وأيهما أكثر
فيدفع
..
على أن الإمام أحمد بن حنبل لم يكن بدعا في هذا الرأي، بل كان فيه متفقا على نحو ما مع ما أفتى به الأئمة الثلاثة من قبله: أبو
حنيفة النعمان، ومالك ابن أنس، والشافعي، فكلهم رأى أن طاعة الحاكم الظالم
مع توجيه النصح له، خير من الثورة عليه لما يصاحب الثوارت من عدوان على
الأنفس والحريات والأموال .. إلا الإمام أبا حنيفة، فقد أيد ثورة الإمام
زيد ابن علي وأوشك أن يخرج معه مجاهدا ضد مظالم الخليفة الأموي هشام بن عبد
الملك
..
وعلى
الرغم من أن ابن حنبل كان شديد التأثر بالشافعي، فقد اختلفا في بعض شروط
الخلافة، فالشافعي يجعل العدالة شرطا لصحة الخلافة .. وإن لم يؤيد الثورة
على الخليفة إن كان ظالما. والجدير بالذكر أن الإمام الليث ما كان يشترط أن
يكون الخليفة عربيا
.. ولكنه اشترط العدالة والبيعة..!
انصرف
أحمد يجمع السنن وآثار الصحابة، ويبحث من خلالها عن أحكام تنقذ الناس من
الضلال .. وكان يجمع ما رواه الصحابة من أحاديث، كل على حدة، ويسند إلى
الصحابي ما رواه .. فكان لابد أن يجمع ما رواه الإمام علي بن أبي طالب لا
يبالي في ذلك أن يتهمه أحد بالتشيع أو بالميل إلى العلويين .. وفي الحق أنه
ما كان متشيعا ولا صاحب ميل للعلويين .. ولكنه تعلم من أستاذه الشافعي أن
الإمام علي كان أحق بالخلافة من معاوية، وأن معاوية كان باغيا، ودافع أحمد
عن رأي أستاذه في مواجهة منتقديه .. وقد روى أحمد عن أستاذه الشافعي: "قال
رجل في علي: ما نفر الناس منه إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي كان
في علي كرم الله وجهه أربع خصال لا تكون منها خصلة واحدة لإنسان إلا يحق
له ألا يبالي بأحد، كان زاهدا، والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها، وكان
عالما، والعالم لا يبالي بأحد، وكان شجاعا والشجاع لا يبالي بأحد، وكان
شريفا والشريف لا يبالي بأحد. وكان علي كرم الله وجه قد خصه النبي صلى الله
عليه وسلم بعلم القرآن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام دعا له وأمره أن
يقضي بين الناس. وكانت قضاياه ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيمضيها
."
وقد
رأى أحمد بن حنبل أن اتباع أحكام الإمام علي سنة لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم أقر جميع أحكامه، فكأنه هو الذي حكم .. ثم أنه قد خصه بعلم القرآن
.. وعجب
علماء الشيعة والمفكرون الذين يؤيدونهم لأمر الإمام أحمد.! لقد حسبوه عدوا
لهم، وعدوا للإمام علي منذ أفتى بأن طاعة الحاكم واجبة حتى إن كان ظالما
أو فاجرا، والثورة عليه خروج على الإسلام!. وكان الشيعة يرون أنه لا طاعة
لحاكم ظالم، ويجب على الرعية أن تثور عليه، فإن سكتوا عنه فليس سكوتهم طاعة
له واجبة، بل اتقاء لظلم أفدح، وانتظارا للفرصة المناسبة .. وإذن فرأى
أحمد بن حنبل أن طاعة الخليفة الظالم الفاجر واجبة شرعا، وأن الثورة عليه
مخالفة للسنة، إنما هو إدانة للشيعة ولإمامهم الحسين بن علي سيد الشهداء
رضى الله عنه، وموافقة على مقاتل الطالبيين، وشرها تلك المذبحة الوحشية
الفاجرة في كربلاء
..!!
ما
بال أحمد يسند بفتواه قتلة الإمام الحسين، وقتلة الإمام زيد، وغيرهم من
أئمة الشيعة، ثم هاهو ذا يمدح الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويعتمد
على فقهه؟!! كان اللجاج شديد في ذلك العصر بين دعاة الحرية السياسية
والاجتماعية من حماة العدل وبين غيرهم من الفقهاء .. ومن أجل ذلك اشتدوا
على أحمد ابن حنبل، لأنه كان يرى الطاعة للحاكم الظالم الفاجر، ويرى الخروج
عليه مخالفة للسنة .. فهو إذن يؤيد الظالم الفاجر يزيد بن معاوية، ويرى أن
خروج الحسين كان مخالفة للسنة!!.. وهذا رأي فاسد
!..
وفي
الحق أن أحمد ما رأى ذلك وما أفتى به .. فقد كان يرى معاوية باغيا على
الإمام علي كرم الله وجهه خرج عن طاعته وثار عليه، فهو مخالف للسنة .. أما
عن خلافة يزيد بن معاوية، فإن أحمد بن حنبل يرى أن معاوية أكره الناس على
هذه البيعة .. ولا إكراه في البيعة، وليس على مستكره يمين، كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم
..
وما
كان أحمد بن حنبل من الذين يخوضون غمرات الصراع السياسي المتأجج، ولكنه
كان يقول ما يؤمن به اتباعا للسنة مهما يكابد في سبيل رأيه، فهو أحرص الناس
على التأسي برسول الله، وكان يقول "صاحب الحديث من يعمل به." .. وما كان
يجيز طعن الصحابة من الخلفاء الراشدين، كما يفعل بعض غلاة الشيعة، وكان هذا
سببا آخر لخلاف هؤلاء معه .. وقد تحدث أمامه جماعة من الناس فذكروا خلافة
علي بن أبي طالب وتناولوا أمير المؤمنين بالتجريح، فتغير وجه أحمد وقال
لهم: "من طعن في علي كرم الله وجهه فهو مخالف للسنة، وليس للسلطان أن يعفو
عنه" .. ثم رفع رأسه وقال: "إن الخلافة لن تزين عليا بل علي زينها
".
ولقد سئل أحمد عن حق علي في الخلافة فقال: "لم يكن أحد أحق بها في زمن علي من علي! ورحم الله معاوية!". وسئل
عن تأييد أم عائشة لطلحة والزبير ضد علي فقال: "أكان طلحة والزبير يريدان
أعدل من علي رضوان الله عليهم أجمعين؟". وسمع أحد غلاة الشيعة بهذا فقال:
"هذه الكلمات أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض". وقد
بنى أحمد آراءه في قتال أهل البغي على سيرة الإمام علي كرم الله وجهه،
متبعا في ذلك رأى الإمام الشافعي، فلما عاتبه أحد أصحابه قال: "ويحك" .. يا
عجبا لك! فما عسى أن يقال في هذا إلا هذا؟! وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغي
قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؟
"
وفي
الحق أن الشافعي أثر في أحمد كما لم يؤثر أستاذ في تلميذه. حتى لقد قال
أحمد بعد أن أصبح إماما كبيرا: "إذا سئلت عن مسألة لا اعرف فيها خبرا (أي
حديثا أو أثرا عن الصحابة) أخذت فيها برأي الشافعي
."
وقد
بلغ تقديره للشافعي أنه أنكر على شيوخه أن يكتبوا فقههم في كتب .. إلا
الشافعي .. أنكر على مالك كتابة الموطأ وقال عنه: "ابتدع ما لم تفعله
الصحابة رضى الله عنهم" وقرأ كتب شيخه أبي يوسف، وكتب محمد ابن الحسن،
وأنكر عليهما أنهما كتبا فقههما .. وأبى على أصحابه أن يكتبوا آراءه أو
فقهه هو نفسه .. ولكنه عندما وصله كتاب الرسالة الجديدة الذي وضعه الشافعي
في مصر، وبهر بالرسالة، وقرأها على أصحابه .. وحضهم على تعلمها، واحتفظ بها
في خزانة كتبه كما يصون كنزا .. وهكذا صنع مع كل كتب الشافعي التي وضعها
في مصر، وهي كتب تأثر فيها الشافعي إلى مدى بعيد بفقه الليث بن سعد إمام
أهل مصر. ولقد حمل أحمد عن الشافعي تقدير كبير للإمام الليث، فكان لا يذكره
إلا بالتقدير
.
وقد
كان أصحاب أحمد يعرفون ميله للشافعي وإكباره إياه .. وكان هو يوصيهم
بقراءة كتب الشافعي قائلا إنه "ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت اتبع للسنة من
الشافعي". وكان الشافعي يبادله هذا التقدير، وقد عده الشافعي من العجائب:
"ثلاثة من العلماء من عجائب الزمان: أعرابي لا يعرف كلمة وهو أبو ثور (وكان
كثير اللحن)، وأعجمي لا يخطئ في كلمة وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال
شيئا صدقه الكبار وهو أحمد ابن حنبل
".
كما
قال عنه الشافعي: "رأيت في بغداد شابا إذا قال!! قال الناس كلهم صدقت."
قيل من هو قال: "أحمد بن حنبل" .. وقال عنه: "خرجت من بغداد، وما خلفت فيها
رجلا افضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى، من أحمد بن حنبل". وكان أحمد
يضع شيخه في أعلى مكان، ويقول إن الله يبعث على رأس كل مائة عام إماما
صالحا من عباده، يحيى به السنن ويرفع شأن الأمة، وقد كان عمر بن عبد العزيز
على رأس المائة الأولى، وعسى أن يكون الشافعي على رأس المائة الثانية".
على أن أحمد بن حنبل، منذ وقف يتدبر أحوال المسلمين، ويتلمس طريق الخلاص،
ووسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة، التمس طريقا يستنبط به الأحكام، فلم يجد افضل
من أصول فقه الشافعي
.
اجتمعت
لأحمد خلال رحلاته عشرات الأحاديث النبوية، فأخذ يرويها للناس ويعمل بها
.. وتأدب بأدب الرسول .. روى الحديث: "كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقي
أخاك بوجه طلق" .. فكان لا يلقي الناس إلا مبتسما، ويقدمهم عليه إذا مشوا
في طريق، أو دخلوا مكانا أو اصطفوا لصلاة الجماعة .. ويروي أحد أصحاب أحمد
أنه دخل معه مكانا، فإذا بامرأة معها طنبور (آلة للعزف)، فكسر صاحب أحمد
الطنبور، وسئل أحمد عن ذلك فيما بعد فقال: "ما علمت بهذا، وما علمت أن
أحداً كسر طنبورا بحضرتي إلى الساعة". ذلك أن أحمد ترك المكان مستنكرا
الأمرين جمعيا: عزف المرأة على الطنبور، وعدوان صاحبه عليها! .. فهو يكره
لأصحابه أن يغلظوا، ويطالبهم حين يأمرون بالمعروف، أو ينهون عن المنكر أن
يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمه الله تعالى:

{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } (النحل،الآية:125) .
وكان
أحمد يكره الشطرنج ويراه لهوا يصرف الناس عن جد الأمور فسمع أن صاحبا له
دخل على جماعة، حول رجلين يلعبان الشطرنج فطوح به ونهر الجماعة، فغضب
الإمام أحمد لما صنعه صاحبه بأصحاب الشطرنج..! كانت سماحته تسع الذين
يسيئون إليه مهما تكن الإساءة فادحة
! .. وشى
به رجل إلى الخليفة، وزعم أن ثائرا علويا يختفي في داره .. ولو صحت
الوشاية لقتل الإمام أحمد بإخفاء الثائر العلوي. فلما تبين للخليفة كذب
الوشاية أرسل الواشي مصفدا إلى أحمد، ليفتي برأيه في عقابه فقال أحمد:
"لعله يكون صاحب أولاد يحزنهم قتله
!".
وهكذا
أخذ أحمد نفسه بالتأدب بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم .. وكان يقول:
"إذ أردت أن يدوم لك الله كما تحب، فكن كما يحب". إن أبرز ما يميزه لهو
التواضع .. قال له أحد الناس "جزى الله الإسلام عنك خيرا فغشاه الحياء ..
جزى الله الإسلام عني خيرا؟ ومن أنا؟! ومن أنا؟!". عرف شيوخه منه هذا
التواضع منذ كان يطلب عليهم العلم، فأشادوا به
.
ذات
يوم ضاق أحد شيوخه بالطلاب في الحلقة، وغاظه عجزهم عن فهم الدرس، فصاح
الشيخ: "ألا تفقهون؟" فقال الطلاب: "كيف لا نفقه وفينا أحمد بن حنبل". فقال
الشيخ "أين هو؟" ودخل أحمد فقالوا: "هاهو ذا" وجلس أحمد حيث انتهى به
المجلس كما تعود، وكما عاش يفعل إلى آخر العمر، فقال الشيخ لأحمد: "تقدم يا
أحمد" فقال أحمد: "لا أخطو على الرقاب". فصفق الشيخ فرحا: "الله اكبر ..
هذا أول الفقه
".
على
أن تواضع أحمد وحياءه لم يمنعاه من الجهر بالحق .. بل كان على النقيض شديد
على الباطل، لا يبالي في ذلك لومة لائم .. لاحظ أن بعض الفقهاء يفضلون
العباس على الإمام علي بن أبي طالب، نفاقا للخلفاء والأمراء من بني العباس
.. وسمع أحمد بن حنبل، هذا الفقيه يذكر الإمام علي بن أبي طالب كرم الله
وجه بما لا ينبغي، ويشكك في حقه في الخلافة، فأنبري أحمد يقول للفقيه على
مشهد من الناس: "من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضل من حمار..! سبحان الله!
.. أكان علي كرم الله وجهه يقيم الحدود ويأخذ الصدقة ويقسمها بلا حق وجب
له!؟ .. أعوذ بالله من هذه المقالة .. بل هو خليفة رضيه أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وصلوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا، وحجوا، وكانوا يسمونه
أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تبع
" .. ثم قال: "ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
وعلى
الرغم من أن أحمد بن حنبل كان يرى أول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن
كان ظالما أو فاجرا، ألا أنه عدل عن رأيه عندما ما أنضجته التجربة فيما بعد
.. فعاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لونا من النفاق يجب أن يبرأ منه
المؤمن
!
ذلك
أنه سمع قصة عن شيخه عبد الله بن المبارك ظلت تضنيه إلى آخر العمر ..
فكانت دموعه تفيض من الندم ومن الرحمة والإشفاق، كلما تذكر ما حدث لأستاذه
عبد الله بن المبارك .. وهو الأستاذ الذي لزمه أحمد وإن لم يره قط .. فقد
كان كلما لحق به في مكان ليسمع منه، وجده قد رحل عنه، حتى مات الشيخ، فلزم
أحمد آثاره وفقهه وتتبع سيرته واهتدى بها، وسمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن
المبارك مر وهو في طريقه إلى الحج بمزبلة قوم، فرأى فتاة تأخذ طائرا ميتا
وتلفه، فسألها عن أمرها فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار
وليس لنا قوت إلا ما يلقي على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة
أيام (أي أن الجوع اضطرهما إلى أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظلم
وأخذ ماله وقتل .. فقال ابن المبارك لوكيله
: "كم
معك من النفقة؟". قال: "ألف دينار" فقال: "عد منها عشرين دينار تكفينا إلى
مرو، وأعطها الباقي. فهذا افضل من حجتنا هذا العام"، ورجع
..
ما
ذكر أحمد هذه القصة إلا بكى .. فما فتواه إذن بوجوب طاعة خليفة ظالم؟!
أيطاع خليفة يظلم رجلا فيقتله ويستولي على ماله ويترك أبناءه جياعا ينقبون
في المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟!! .. يا حسرتا على العباد!!..
وإذن ما جدوى العلم والفقه وما جدوى كل شيء؟
!
وما
الإسلام إن كان على وجه الأرض من يلتمس القوت في المزابل، وفي الأمة مع
ذلك مسلمون يملكون آلاف الآلاف؟! .. وفيها فوق ذلك علماء يمجدون الفقر
ويدعون إليه باسم الزهد؟! .. أي زهد هذا!؟ بل إنه لإعانة للظالم على
ظلمه..!. ثم ما الانشغال الكامل بالمجردات، والقضاء، والقدر، وخلق القرآن،
والجبر، والاختيار؟! ما الاهتمام بهذه الأمور والحوار المصطخب حولها،
والعدل معطل!!؟. إن المفكرين ليخبطون في العشوات، ويتركون الحكام يقتلون
المظلومين ويصادرون أموالهم!. كم في الأمة من رجال ونساء يسقطون في الأوحال
بدلا من أكل الميتة أو البحث عن القوت وسط المزابل؟!!. وكم من العلماء فكر
في هؤلاء الجياع والمظلومين!! .. أعلماء وفقهاء هم، أم هم أوتاد وخشب
مسندة يرتكن إليها الباغون
!!
إن
كل ما في أيدي الخلفاء والأمراء والأغنياء حرام عليهم، مادام في الأمة
جياع! وستكوى ظهورهم وجنوبهم في نار جهنم بما يكنزون من ذهب وفضة، كما
أنذرهم الله تعالى في كتابه الكريم!! .. والعلماء والفقهاء الذين يزينون
لهم سيرتهم على أي نحو من الأنحاء، وحتى الذين يسكتون على هذا المنكر، إنما
هم جميعا شياطين خرس، سيعاقبهم الله تعالى عقاب الشياطين يوم يقول الحساب
!!
إن
من هؤلاء الفقهاء والعلماء من يضلل الناس عن الحقيقة جهلا منه أو غفلة أو
رياء للحكام. إنهم ليحببون الفقر لعامة المسلمين، وإنهم ليعظون عامة
المسلمين ألا يفكروا في غير ذكر الله، عسى أن تطمئن قلوبهم .. ولكن ما جدوى
ذكر الله إذا لم يعمل بهذا الذكر، إذا كنت تأكل الحرام؟! .. إن من أكلي
الحرام من يستطيع أن يذكر الله أضعاف أضعاف غيره من المشغولين بالسعي في
طلب الرزق!! .. ولكن ذكر الله ليس ما يتحرك به لسانك، وإنما هو عمل
الصالحات
! ..
ولقد طاف رجل على فقهاء بغداد يسألهم واحدا بعد الآخر: "بم تلين القلوب؟" قالوا: {أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} (الرعد،الآية:28)..
ثم لقي أحمد بن حنبل فسأله فقال أحمد: "بأكل الحلال". فعاد الرجل يطوف بهم
جميعا ويذكر لهم جواب أحمد .. وكأنه نبههم من غفلة، وفتح عيونهم على
الحقيقة فقالوا: "جاءك بالجوهر. الأصل كما قال". ألف الناس أن يسألوا أحمد
بن حنبل كلما لقوه، فيجيبهم بعد التروي، وكثيرا ما كان يقول: "لا أدري
" ..
وأغراه بعض المعجبين به أن يتخذ له حلقة في الجامع، ويجلس ليعلم الناس ويفتيهم، فيصير إماما .. ولكنه تحرج .. فقد كان يرى أنه يجب ألا يجلس للفتوى والتدريس حتى يبلغ الأربعين .. أي
في سن النبوة! .. ثم إنه لا يستطيع أن يفتي وبعض أشياخه حي، فالشافعي
أستاذه ما يزال حيا بمصر! .. وأمر آخر: إنه يريد قبل أن يجلس للفتوى
والتدريس، أن يفرغ من تنسيق الأحاديث إلى جمعها في رحلاته العديدة المضنية،
يريد أن يسند الأحاديث إلى رواتها من الصحابة ويخص لكل واحد منهم مسندا ..
وعمل كبير كهذا يقتضيه الاعتزال في بيته
..
وبدأ
يعتكف ليجمع مسنده، ويمحص ما فيه من الأحاديث، وعاتبه بعض الذين ألفوا
لقاءه، فطلب منهم أن يتركوه ليعمل ما هو أجدى من غشيان مجالس ليس فيها غير
أحاديث يثرثر بها قوم ألفوا السكوت على الباطل وظلم العباد .. كان قد بدأ
يدون
(المسند)
منذ بدء عنايته بالحديث، وقد تعين عليه الآن أن يجمع شتات ما كتب، وأن
يسطر على الورق كل ما حفظ، وأن ينظر في هذه الأحاديث مع إمعان النظر في
نصوص القرآن، ليحسن استنباط الأحكام. وجمع (المسند) في كتب متفرقة، وظل
يعمل فيه إلى آخر أيام حياته، لينسقه ابنه ويصنفه من بعده
.
وكان
أحمد يكتب في مسنده كل ما يحفظه من أحاديث .. وقد قال هو فيما بعد لابنه
عبد الله الذي روى فقهه وبوب مسنده، بعد أن سأله عبد الله عن حديث جاء في
المسند، رويت بخلافه أحاديث أخرى قال أحمد لابنه
: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث.
لست
أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. وقد لاحظ ابن
الجوزي أن بعض فقهاء الحنابلة فيما بعد قد اعتبروا كل ما جاء في المسند من
أحاديث صحاحا على الرغم من تنبيه أحمد بن حنبل نفسه. حزن ابن الجوزي لهذا،
وكتب: "قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم صاروا كالعامة، وإذا مر
بهم حديث موضوع قالوا: قد روى. والبكاء يجب أن يكون على خساسة الهمم ولا
حول ولا قوة إلا بالله
".
أصبح أحمد بن حنبل وما في بغداد أحفظ منه للحديث، ولا أعمق منه بصرا بآثار الصحابة وفتاواهم، فضلا عن فقهه بعلوم القرآن. وشهد
شيوخ بغداد بفضله وعلمه وتقواه، وجدارته بالتدريس والإفتاء. وهاهو ذا يبلغ
الأربعين، وقد مات الإمام الشافعي، ووجب على أحمد أن يتخذ له حلقة للتدريس
والإفتاء بالمسجد الجامع ببغداد. وحدد موعدا لحلقته بعد صلاة العصر كما
فعل الإمام أبو حنيفة منذ أكثر من خمسين عاما .. استقر لأحمد بن حنبل الآن
منهج في استنباط الأحكام، خالف فيه أبا حنيفة ومالك بن أنس. وتابع فيه
أستاذه الشافعي. وإذن فقد أصبح أحمد بن حنبل إماما
..
وشرع
الإمام أحمد يفسر القرآن، ويروي الأحاديث ويفسرها، ويشرح للناس مذهبه في
استنباط الأحكام، ويفتي فيما يطرح عليه من مسائل. وفي هذه الحلقات علم
الناس أن من روى حديثا صحيحا ولم يعمل به .. فقد نافق! وفي هذه الحلقات
تفجر فقهه أصولا وفروعا .. وأجاب على آلاف المسائل .. وازداد شهرة، وتزاحم
الناس على حلقاته، وتركوا حلقات الفقهاء الآخرين، حيث وجده الناس غزير
العلم، حسن الرأي، حلو الحديث، رفيع الذوق، كثير الحلم، جميل المعشر ..
ووجدوه حفيا بالفقراء من طلاب العلم، بسواد الناس يقربهم ويهش لهم .. وقد
جر عليه هذا كثيرا من العناء! فقد نفس عليه بعض فقهاء بغداد، وتبدل في
قلوبهم إعجابهم به، ورضاهم عنه، لتشتعل الغيرة منه
.
ثم
إن طلاب العلم تابعوه إلى بيته، ولم يتركوا له وقتا للراحة أو العمل ..
وعاتبه أحد أصدقائه لأنه لم يعد يلقاه كما ألف من قبل فقال له: "إن لي
أحباء هم أقرب إلى ممن ألقاهم في كل يوم، لا ألقاهم مرة في العام
.
أسرف
عليه طلاب العلم ومحبوه، فأزعجوه، وما كان له حجاب ينظمون مواعيد الناس،
كما كان للإمام مالك والإمام الليث من قبل، وما كان يستطيع أن يمتنع عن
لقاء زواره إذا كان يعمل أو يستريح في بيته كما تعود مالك والشافعي ..
وأثقل عليه أصحاب المسائل، وطلاب مودته، فخشي أن يفتن نفسه، أو يدهمه
الغرور والكبر والزهو أو المراءاة وشكا همه إلى الله تعالى، وتمنى عليه لو
أهمل ذكره، أو ألقى به في شعب من شعاب مكة حيث لا يعرفه أحد
..!
ما
كان الناس يتركونه ليستريح، والحياء بعد يمنعه من صدهم. ولاحظ أن في
حلقاته من يكتب إجاباته وفقهه، فنهاه فما كان يحب كتابة الفقه .. وسأله
سائل: "لم تنهي عن كتابة الفقه وابن المبارك الذي نعرف موقعه منك كتب فقه
أهل الرأي في العراق؟" فأجاب: "ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقد أمرنا
أن نأخذ العلم من فوق." "أي من القرآن والسنة
."
ذلك
أن الإمام أحمد كان يخشى إذا دون الفقه أن تتجمد الأحكام، ويشيع التقليد
فيما يأتي من العصور، والفقه ينبغي أن يتجدد بالضرورة وفق مقتضيات الزمان،
يضبط هذا كله ما جاءت به نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، فهي وحدها
الجديرة بالتدوين، بوصفها المعيار الموضوعي الثابت، ووعاء الأحكام الشرعية
جميعا، إما بظاهر نصوصها، أو بدلالاتها الواضحة أو الخفية، وإما بالقياس
على ما في النصوص من أحكام إذا تشابهت العلل والحكم. وتعود الإمام أحمد في
حلقة درسه بعد كل صلاة عصر، أن يفتي الناس وطلاب العلم عما يسألون، وأن
يشغل نفسه وأهل الحلقة بما اشتغل به السلف: القرآن وتفسيره
.
وكان
يعلمهم أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضا، أو تفسيرها الأحاديث الشريفة،
وآثار الصحابة الذين تلقوا علمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم .. فموضوع
الدرس إذن هو القرآن والسنة وآثار الصحابة. ثم إنه ليأخذ أهل الحلقة بإتقان
اللغة العربية وآدابها وعلومها، ليسهل عليهم فهم القرآن والأحاديث
..
أما
سائر المعارف التي انتشرت في عصر الإمام أحمد، فما كان ليسمح بطرحها في
الحلقة .. وبصفة خاصة الكلام في العقيدة .. وكان المعتزلة قد أحدثوا حركة
فكرية عنيفة، وتصدوا للرد على الزنادقة والملحدين بما عرفوا من علوم المنطق
والفلسفة، ثم أخذوا منذ حين يطرحون هم وغيرهم من صفاته، ووضع القرآن:
أمخلوق هو أم قديم". ولقد تصاول المفكرون والفقهاء من قبل حول عدد من هذه
القضايا مثل الجبر والاختيار، فمنهم من ذهب إلى أن الإنسان حر في حدود علم
الله وتقديره
.
ومنهم
من قال بالجبر، فالإنسان في كل أفعاله مجبر فهو مسير لا اختيار له. ومنهم
من أنكر هذا كله، وقال بأن الإنسان حر الاختيار، وأن حريته هي مناط التكليف
وأساس الحساب، فإذا لم يكن الإنسان حرا فعلام يحاسب، وفيما الثواب
والعقاب؟! .. إنه لعبث إذن وهو ما يتنزه الله تعالى عنه .. ومنهم من قال إن
صفات الله جزء من ذاته العلية. ومنهم من قال أن ما هو حسي من هذه الأوصاف
والصفات يجب أن يؤول عن ظاهرة معناه وأطالوا الحوار في أسماء الله تعالى
أهي الذات أم صفات غير الذات العلية، وفي كيفية رؤيته يوم القيامة. والعلم
الذي يتناول هذه الأمور جميعا يسمى بعلم الكلام .. وكان علماؤه أشداء في
الجدال، متمرسين بأساليب الحوار
..
إلا
أن الإمام أحمد بن حنبل رفض الحوار، أو التفكير في علم الكلام كله، وحث
الناس على ألا يتناولوا من أمور الدين إلا ما جرت عليه السنة وأثار الصحابة
.. قال
: "لا
أرى الكلام إلا ما كان في كتاب أو سنة أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أو عن أصحابه أما غير هذا فإن الكلام فيه غير محمود". رفض أن يطرح في
حلقته أمر من العقائد، على الرغم من أن الحياة الفكرية خارج حلقته كانت
تضطرب بهذه الأفكار التي تصطرع حولهما عقول المفكرين والعلماء والفقهاء.
وهو صراع طرح نفسه على مجالس الخلفاء، فشجعوه وأقاموا له ندوات الحوار
..
ولقد
تلقى الإمام أحمد كتابا من أحد أصحابه يسأله عن مناظرة علماء الكلام، فرد
عليه الإمام أحمد: "الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا
يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ". والحق أن الإمام أحمد بن حنبل كان
شديد التمسك بسيرة السلف وآثار الصحابة فيما يمس العبادات والعقائد
.
أما
أحكام المعاملات فقد تطور بها، وتوسع فيها، ووضع لها من القواعد ما يفتح
أبواب الاجتهاد للفقهاء في كل عصر كلما دعت الحاجة. فالرجوع إلى الحق فضيلة
وهو خير من التمادي في الباطل. من ذلك أنه أباح كتابة بعض فقهه لمصلحة
رآها. وكان يغير آراءه ومواقفه، كلما تبين له وجه أصوب في الأمر..

ومن
ذلك أنه غير موقفه من علم الكلام .. إذ تبين له أن لا مصلحة في السكوت عن
علم الكلام .. وما كان العصر ليترك مثل الإمام أحمد في صمته عما يثيره
المتكلمون، فوجد أن مصلحة الشريعة تقتضيه أن يقول آراءه فيما يشغل الحياة
الفكرية والفقهية من حوله، فهذا أجدى على الدين من الصمت، والنهي عن الحوار
أو التفكير
!.
فأعلن
آراءه في قضايا الإيمان، والقدر، وأفعال الإنسان، وصفات الله .. ولكنه دعا
عددا قليلا من خاصة العلماء والفقهاء وصفوة الصحاب ليذيع فيهم هذه الآراء
.. ذلك أن حلقته في الجامع كانت قد أصبحت تضم آلافا من طلاب العلم ومحبي
آرائه .. وإنه ليخشى أن يتسع الحوار حول العقائد بين هذه الأعداد العديدة
من الناس، فيزيغ بصر، أو يضل عقل، أو تزل قدم بعد ثبوتها، أو يستقر خطأ ما
في قلب من لم يؤهله علمه بعد لبحث أمور العقائد
!
قال
الإمام أحمد في الحلقة التي يعقدها في داره "إن الإيمان قول وعمل، وهو
يزيد وينقص، زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أسأت. ويخرج الرجل من الإيمان
إلى الإسلام، فإن تاب رجع إلى الإيمان. ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك
بالله العظيم، أو برد فريضة من الفرائض جاحدا لها. فإن تركها تهاونا بها
وكسلا كان في مشيئة الله. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه". أما رأي الإمام
أحمد في مرتكب الكبيرة فهو ليس كافرا، ولا هو في منزلة بين منزلتي الكفر
والإيمان، وليس معفوا عنه، وإنما عليه أن يتوب، وأمره إلى الله .. فمن زعم
أنه كافر "فقد زعم أن آدم كافر، وأن أخوة يوسف حين كذبو أباهم كفار." ..
وقال
: لا يكفر أحد من أهل التوحيد وإن عمل بالكبائر.
وما
كان للإمام أحمد ليجهر بهذه الآراء في حلقته العامة، فيسيء فهمها أحد
ويجسر الناس على اقتراف الكبائر .. بل خص بآرائه أهل العلم في حلقته الخاصة
في داره، حيث الجو الصالح للتفكير والحوار في أمور حرجة كتلك .. وأما عن
القضاء والقدر فقد قال: "أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين
وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرضاء بقضاء الله، والتسليم لأمره، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله
به، والبعد عما نهى عنه، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال
والخصومات في الدين". وقال: "الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس كلما
ازداد نظرا ازداد حيرة
".
أما
عن صفات الله وأسمائه مما جاء في القرآن أو السنة، فيرى الإمام أحمد
روايتها واتباعها كما جاءت، فلا نقحم عليها ما لا يصلح لضبطها وهو العقل ..
فهي أمور اعتقادية ينبغي على المؤمن أن يسلم بها كما هي .. وكذلك رؤية
الله تعالى يوم القيامة، يجب فيها أن نؤمن بما جاء في الأحاديث الشريفة،
وقد رأى الرسول ربه، ويجب أن نفهم الأحاديث بظاهرها. على أن أحمد يرى في
انشغال الفكر بهذه الأمور ترفا يصلح أن يتلهى به الخلفاء والأغنياء في
قصورهم!. هو ترف يصلح للذين لا يعنيهم العدل، وقد تؤذيهم إقامته. والانشغال
بهذا الجدل هو بعد إقصاء للفكر عن شئون الحياة ومجافاة لمقاصد الشريعة
التي تتوخى مصالح العباد .. فالفقيه الحق الفاضل يجب أن يشغل من أمور الدين
بما يقيم المجتمع الفاضل الذي أراده الشارع الحكيم أي بما يحقق مصالح
الناس
.
وإذن
فينبغي ألا يشغل الفقيه التقي إلا بما يفيد الناس في حياة كل يوم .. إلا
بما تحته نفع كما قال الإمام مالك بن أنس من قبل، وكما صنع الأئمة العظام
أبو حنيفة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي. أما ما يعنيه الخلفاء
والأمراء والأغنياء من شغل العلماء والفقهاء والمفكرين بغير واقع حياة
الناس وصرفهم إلى التصارع العقلي في المتاهات فهذا كله لا جدوى منه، وهو
استدراج لهم لينشغلوا عن مصالح الأمة، وعن استنباط الأحكام والضوابط التي
تكفل هذه المصالح، ليخلص للخلفاء والأمراء إلى ما هم فيه من ترف وظلم
واستبداد؟! وليظل في الرعية من يبحث عن الطعام وسط المزابل، والرعاة
متخمنون
!!
هكذا
كان الإمام أحمد ينظر إلى اشتجار الخلاف من حوله في أمور العقائد، وإلى
انشغال الفكر بها، وحرص الخلفاء والأمراء على تشجيع الانصراف إليها .. لكأن
ولاة الأمور لا يريدون للفقه أن يعني بأحوال الرعية، وأن يقيم العدل، وأن
يضع الميزان .. إن هؤلاء الحاكمين ليشجعون الزهاد على تمجيد الفقر،
والانصراف عن هموم الحياة، وكأن الإسلام دعوة إلى الفقر
! .. ثم
إنهم في الوقت نفسه يحضون أهل الفقه والعلم والفكر على الانصراف عن الواقع
إلى ما وراء الواقع .. عن الحياة إلى ما قبل الحياة وما بعد الحياة .. فمن
بعد ذلك يحاسب الحكام على ما لم يفعلوه للرعية، وعلى ما يقترفون!!؟ ومن ذا
الذي يدافع عن المعدل والحق ومصالح الناس؟
!!
ما
كان للفقهاء الأبرار الذين وقفوا جهودهم على خدمة الشريعة أن يقعوا في
الفخاخ!! وهكذا جعل الإمام أحمد كل همه إلى ما يفيد الناس. وفي الحق أن
الإمام أحمد بن حنبل لم يهاجم ظلم الحاكم علنا، كما فعل من قبله أبو حنيفة
الذي حرض صراحة على الثورة، ولكن آراء الإمام أحمد عن العدل وعن الأسوة
الحسنة، وعن حقوق ذوي الحاجة، ثم فتاواه .. كل أولئك قد أوغر ضده الصدور
.
وكان
استنباطه للأحكام والفتاوى يعتمد على نصوص القرآن والسنة وأقوال الصحابة
وآثارهم، ثم القياس. قال أحمد عن القياس: "سألت الشافعي عن القياس فقال
يصار إليه عند الضرورة". وهذا هو ما فعله أحمد، فهو لا يلجأ إلى القياس إلا
إذا لم يجد حكما في نص القرآن أو السنة أو أقوال السلف، والسلف عنده هم
الصحابة والتابعون. فإذا اختلفت أقوال الصحابة اختار أقربها إلى نصوص
القرآن والسنة. وإذا اختلفت أقوال التابعين اختار منها ما هو أقرب إلى
القرآن والسنة أو ما وافق الصحابة مجتمعين أو أقرب أقوالهم إلى النصوص
.
وهو
على خلاف من سبقوه، يقدم الحديث الضعيف على القياس .. مادام الحديث قد صح
عنده وتأكد أنه غير موضوع .. أما الإجماع فهو يرى أنه لم ينعقد بعد الصحابة
.. وقال في ذلك: "ما يدعي الرجل فيه الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا
.. ما يدريه؟ فليقل لا نعلم مخالفا". وقال
: "قد
كذب من أدعى الإجماع". أما الصحابة فهم معروفون بأسمائهم، والعلم بإجماعهم
وخلافهم ميسور. والإمام أحمد يلحق إجماع الصحابة بالسنة، لأنهم لا يجمعون
إلا على ما علموه علم اليقين عن الرسول صلى الله عليه وسلم إما رواية عنه
أو اجتهادا منهم أقرهم عليه..

فالإمام أحمد لا ينكر الإجماع بعد الصحابة ولكنه لا يتصور حدوثه .. ولهذا
اعتمد على القياس بعد النصوص وآثار الصحابة .. على أنه إذ يعتمد القياس
أصلا من أصول فقهه، إنما يفعل ذلك اتباعا للسنة والسلف الصالح .. ويقول:
"القياس لا يستغني عنه والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ به، وأخذ به الصحابة
من بعده
". [/col
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:30 pm

قال أحمد بن حنبل حين سئل أول الأمر عن القرآن: "هو كلام الله". فسأله نائب الخليفة أمخلوق هو؟ قال: "هو
كلام الله لا أزيد عليها". وسئل ما معنى "سميع بصير، أهو سميع من أذن يبصر
عن عين؟" قال الإمام أحمد: "ما أدري، هو كما وصف نفسه" .. دعا نائب
الخليفة كل العلماء والفقهاء والقضاة، وعرض عليهم رسالة أحمد بن دؤاد التي
يهددهم فيها الخليفة بالقتل إن لم يوافقوا على أن القرآن مخلوق
..
وأحضرهم
جميعا فإذا بهم كلهم يجيبون بأن القرآن مخلوق..! وكان الإمام أحمد رجلا
لينا، فلما سمع العلماء يجيبون، انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك
اللين الذي كان فيه ..

وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "سيصيبك بعدي بلاء شديد" فقال أبو ذر: "أفي الله يا رسول الله؟" قال: "نعم" "فاغرورقت عينا أبي ذر، وأدرك أنه من أهل الجنة!!
اغرورقت
عينا الإمام أحمد .. ورفض الإذعان. وتابعه تلميذ له من جيرانه، وهو طالب
علم شاب، رقيق الحال اسمه محمد بن نوح. وإذ رأى الحاضرون أن جميع الفقهاء
والعلماء والقضاة في العراق قد وافقا أحمد بن أبي دؤاد على رأيه قال قائل
منهم للإمام أحمد: "ألا ترى أن الباطل ظهر على الحق؟" قال الإمام أحمد:
"كلا. إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة،
وقلوبنا بعد لازمة للحق
".
وضعت الأغلال والأصفاد على الإمام أحمد، وتلميذه الشاب محمد ابن نوح .. وحملا معا في دابة واحدة، وسيقا من بغداد إلى طرطوس!!. وانتشر
الخبر في كل أنحاء العراق. وسخط الناس على المعاملة التي يلقاها الإمام
أحمد حتى إذا كان في بعض الطريق قابله رجل فقال له: "يا هذا .. ما عليك أن
تقتل هاهنا وتدخل الجنة!" .. ثم قابله أعرابي فقال له: "إن يقتلك الحق مت
شهيدا، وإن عشت عشت حميدا
" ..
تسامح
الناس بما كانوا من أمر الإمام أحمد .. وتناقلت خبره الركبان إلى خارج
العراق، فغضب له حتى الذين ليسوا على رأيه وما لقيه أحد إلا قوى قلبه وشد
أزره. وشرد أحمد بن حنبل وهو يعاني فوق مركب خشن تحت الأغلال، وتساءل لماذا
يمتحنه الخليفة المأمون بخلق القرآن؟! إنه يمتحن الذين يتولون مناصب في
الدولة كالقضاة، والذين ينالون عطائه .. والإمام لا إلى هؤلاء ولا إلى
هؤلاء
.
لقد
جمع العلماء للمناظرة في هذا الأمر وهو في بغداد منذ ست سنين .. فما باله
الآن بعد أن ترك بغداد مجاهدا في سبيل الله يمتحن العلماء؟! .. وما باله لا
يسير على سنة أبيه هارون الرشيد الذي أنذر زعيم المعتزلة في زمانه بالقتل،
إن هو جاهر بأن القرآن مخلوق، وشغل الناس بهذه القالة؟
! ..
ما
بال المأمون يخالف نهج أبيه، ويخالف نفسه، ويعدل عن المناظرة إلى التهديد
بالقتل؟!. ماذا حدث ليتغير المأمون؟! .. ولماذا يزج بالإمام أحمد في هذه
الفتنة؟
!.
الذي حدث أن أحمد بن أبي دؤاد زعيم المعتزلة، قد أصبح صاحب الرأي، وله الأمر؟! وأحمد بن دؤاد هذا لن يستريح حتى يرى كل الرؤوس كرأسه .. وبصفة
خاصة رأس الإمام أحمد الذي يتعذب بعفته وشموخه المنافقون! كان ابن دؤاد
يلهث لينال منصبا عند المأمون، وأحمد بن حنبل رفض منصب قاضي اليمن ليسير
على قدميه من بغداد إلى صنعاء ويطلب الحديث ويعمل حمالا في الطريق، ونساجا
للسرويل ونساخا بصنعاء ليوفر لنفسه النفقة!! ثم إن أحمد بن أبي دؤاد ينحني
متقبلا لعطاء الخليفة، وأحمد بن حنبل يأباه
!
وفي
حلقات المسجد الجامع ببغداد يجتمع الآلاف حول الإمام في حلقته، أما ابن
أبي دؤاد فلا يجرؤ أحمد على الجلوس في حلقته ولم يكتمل لحلقته قط عشرة من
طلاب العلم وأصحاب المسائل!!. فإذلال الإمام أحمد هو عزاء ابن دؤاد عما
يتردى فيه من هوان! ولكن الجاحظ وهو أعظم المفكرين والكتاب في عصره، يقيم
مع الخليفة هناك .. فما بال الجاحظ لا يعظ الخليفة؟
!.
من
الحق أن الجاحظ سخر بعدد من العلماء المتزمتين من أجل السنة، وجعلهم هزأة،
وأسماهم الحمقى من معلمي الصبية، ذلك أنهم اتهموه بالزندقة افتراء عليه،
ولكن الجاحظ يعرف قدر الإمام أحمد بن حنبل، فما باله يترك المأمون يطلب
مثول أحمد أمامه وهو في الأصفاد! كان المأمون نفسه قبل أن يمرض كان قد دخله
شيء من بعض أهلس السنة، وكان الإمام أحمد إماما لأهل السنة، فمواقفهم
وأقوالهم تحسب عليه على الرغم من شقائه بهم وبعده عنهم
..!
فهذا
النفر من علماء أهل السنة قد سكتوا عن المظالم من قبل، وشغبوا على أهل
الغناء ولاعبي الشطرنج في بغداد، ثم بايعوا زعيم أهل الغناء إبراهيم المهدي
أمير للمؤمنين بدلا من المأمون ثم أنهم أهدروا دم المأمون!! حتى إذا غلب
المأمون، تسللوا إليه وهو على أبواب بغداد، ينافقون ويبايعونه، سارين في
الليل أو سارين في النهار! ثم إنهم أنكروا عليه اهتمامه بالفلسفة والعلوم
وحرضوا عليه العامة في بغداد، لأنهم يخالفونه في القول بخلق القرآن! وهاهم
أولاء بعد أن هددهم يذعنون له، ويقول قائلهم: "ما تعلمنا العلم والفقه
والدين إلا من أمير المؤمنين، ويهدرون في ذلك آراءهم وكرامتهم نفسها
!!
ولكن
الإمام أحمد بن حنبل طراز آخر من الرجال! وهو أشد الناس ضيقا بهذا النفر
وإنكارا لهم وإزراء عليهم .. إلا أنه لا يتبع عورات الآخرين!! ولقد اعتزلهم
حين عاتبوه، وواجههم على الرغم من لينه بأنهم قوم لا يحسنون إلا الغيبة
والمراءاة والكذب والنفاق، وأن انصرافه عنهم إلى العلم هو العمل الصالح
الذي يليق بالأتقياء
! .. ألأن المأمون كان يعفهم شدد عليهم النكير، فاعترفوا، فأعلن على الناس عيوبهم؟!.!
لقد أذاع المأمون على الأمة ما صح عنده من مطاعن على هذا النفر من الفقهاء: الفساد،
والرشوة والنفاق والتصاغر، والحقد والوشاية إلى مثالب أخرى غليظة ذكرها
الطبري بالتفصيل فيما كتب عن أحداث سنة 218 هـ؟! .. ربما..!! ثم .. لماذا
يقترف المأمون هذا البغي، وهو يجاهد في سبيل الله، وأحمد ابن حنبل يدعو
المسلمين إلى نصرته؟! أيمكن أن تزدهر حضارة كل هذا الازدهار وتتألق فيها
عقول المفكرين والعلماء وحرية الفكر على الرغم من ذلك تنتهك؟
!
لعل
ابن أبي دؤاد يريد أن يقنع الناس أن كل العلماء والفقهاء، يجب أن ينحنوا،
بما أنه هو نفسه قد انحنى!! .. ولكن الإمام أحمد بن حنبل، كان يدرك أنه
مسئول أمام الله عن الدفاع عما يؤمن بأنه حق، فإن مات في سبيله فهو شهيد.
إنه لا يعرف أن المأمون لا يأخذ بالوشاية وهو يعتبر الأخذ بالوشاية أظلم من
الواشي، فما خطبه معه؟ .. وهو يعرف أن المأمون لا يشتم أحدا، فكيف طعن في
كل فقهاء السنة أبشع مطاعن!؟! إنه إذن لتأثير خارق على المأمون يمارسه بن
أبي دؤاد
! ..
وقد
ظلت الحادثات طوال رحلة الضنى من بغداد إلى طرطوس، تلح على أحمد وتواجهه
بأنه مسئول عن الحقيقة .. فإن تخلى عنها لحظة، انهار كل شيء في أعماق
الناس!! وهكذا سار الإمام أحمد بروح شهيد!. سيناضل عما يؤمن به، لكيلا تسقط
رايات الحقيقة، ولكي تظل الفضيلة شامخة أبدا
!.
أما
لمشفقون على الإمام أحمد، فقد نصحوه بأن يستجيب تقية .. ولكنه رأى أن
التقية في موقف كهذا لا تجوز، أيقول غير ما يراه؟ ماذا يتقي؟! .. أهو الحكم
بموته؟ إنه سيموت في يوم ما ولكن الناس؟ .. لعلهم سيعتنقون الرأي الخطأ،
ويبقى هو مسئولا أمام الله عن تضليلهم
!
بل
لا تجوز التقية إلا في زمن غاشم يعلم الناس في الحقيقة، فلا يضللهم قول أو
سكوت .. أما هذا الزمان فهو زمن يعدل فيه الخليفة، ويخرج فيه مجاهدا أعداء
الإسلام .. والحقيقة في حاجة إلى رماة بواسل، وإلى شموع تحترق لتضئ
الظلمات .. وإلا تخبط الجاهلون في عشوات الضلال
.
لقد أذعن كل الفقهاء والعلماء إلا اثنين .. هو وتلميذه محمد بن نوح .. وبالأمس كان معهما اثنان آخران .. ولكن
مس الحديد وثقل الأغلال، وإهانات الأوغاد، ثقلت عليهما .. فأجابا فيما
دعيا إليه، فأطلق سراحهما. وسير الإمام أحمد ابن السادسة والخمسين، وتلميذه
الشاب محمد ابن نوح في الأغلال والأصفاد، تحت الإهانة، وهما على بعير واحد
إلى آخر الأرض
..!
وسأله رجل في الطريق وقد رأى ضعف جسمه: "أإن عرضت على السيف تجيب؟" قال: "لا". فقال
الرجل: "الله اكبر .. هذا هو الإمام أحمد". وألح الشعور بالمسئولية على
الإمام أحمد .. وكان جلدا، ألف مشقات الأسفار، أما تلميذه الشاب فلم يحتمل
المشقة، وأنهكه ما عاناه، فاعتل .. وما كان محمد بن نوح ليمتحن لولا أنه
تلميذ الإمام أحمد وجاره
.. كم من الناس يعذبون من أجلك يا أحمد؟!! ولكنه بلاء في الله يا أحمد!! بلاء في الله شديد!!
حتى
إذا كانا في خان على الطريق، قابل أحد رواد حلقته أحد رواد حلقته في
بغداد، وكان عزيزا لديه .. فقال له الإمام أحمد: "لقد تنيت" .. فقال الرجل:
"ليس هذا عناء يا إمام .. أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بك". وأطرق
الإمام أحمد وهو يتأوه .. أواه .. هنا العبرة يا بني .. أنا المسئول عن
موقف الناس
!!
وأضاف
الرجل: "فوالله لئن أجبت بخلق القرآن، ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله".
وهز الإمام أحمد رأسه وما تزال الدموع تبلل لحيته .. والرجل مستمر في قوله
: "إن الخليفة إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت، فاتق الله ولا تجبهم بشيء." .. وارتفع
صوت الإمام أحمد من خلال الدموع: "ما شاء الله ما شاء الله". ثم قال: "أعد
علي ما قلت" فأعاد الرجل .. وهبت على الإمام أحمد نسمة من الرضاء بقضاء
الله، جففت الدموع التي بللت لحيته فانطلق صوته الندي: "ما شاء الله ما شاء
الله" .. وطابت نفسه بما كان قد صمم عليه .. ألا يجيب المأمون إلى ما يدعو
إليه
!!
واقترب
الإمام وتلميذه محمد من طرطوس .. فإذا برجل يقبل إلى أحمد متهللا:
"البشرى! لقد مات المأمون". كان أحمد قد دعها الله ألا يرى المأمون!! ..
فلم يره قط! وأعيد أحمد وتلميذه محمد بن نوح إلى بغداد، وترفق رجال الشرطة
بهما في الطريق، فما يدرون ما يكون شأن الإمام أحمد مع الخليفة الجديد؟!
ربما أكرمه فباءوا هم بغضب الخليفة الجديد
!.
وأحسنوا
إلى الإمام أحمد وتلميذه محمد بن نوح .. ولكن محمد بن نوح الذي أضناه
السفر تضعضع وخارت قواه، وعكف عليه أمامه يعالجه بلا جدوى، فقد نفد الزيت
من المصباح، وحم القضاء .. وأمسك المناضل الشاب بيد أستاذ قائلا: "الله
الله
!! إنك لست مثلي. إنما أنت إمام يقتدي به، وقد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله واثبت لأمر الله".
وسقط ميتا!!!
وما
وعظ تلميذ أستاذ كما صنع محمد بن نوح مع الإمام أحمد بن حنبل..! ولكنه مات
شهيدا دفاعا عما يؤمن به .. وبكاه الإمام أحمد أحر بكاء وصلى عليه .. وقال
عنه: "ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن
نوح". عهد المأمون لأخيه المعتصم ـ وهو ابن جارية تركية ـ فتولى الأمر وكان
المعتصم قوي الجسم حتى ليحمل حديدا يزن ألف رطل ويسير به خطوات! وكان على
هذه القوة والبسطة في الجسم قليل الحظ من الثقافة .. حتى لقد أقصاه أبوه
هارون الرشيد
!
ولكن
المأمون رأى أن جهاد أعداء الدولة يحتاج إلى رجل سيف في قوة المعتصم وحزمه
وشدته، أوصاه بالإبقاء على ابن أبي دؤاد فترك له المعتصم شئون الدولة
فأدارها الوزير على هواه .. أما المعتصم فوهب نفسه للحرب .. وكان أحمد بن
أبي دؤاد حسن التأني حلو الحديث بارع النفاق، وكان على دراية بشيء من أخبار
الأولين، وبأطراف من الثقافة لا يعرفها المعتصم، فاستطاع أن يستولي على
عقل الخليفة، واستصدر أمرا بحبس أحمد بن حنبل في السجن الكبير ببغداد،
وانشغل الخليفة المعتصم بتوطيد أركان الدولة فولى الأتراك مع أخواله
.
وفي
أول حكمه توالت أحداث غريبة ومبالغة: مات الإمام محمد الجواد فجأة كما ذهب
من قبله إمام الشيعة أبوه الإمام علي بن موسى بن جعفر الصادق في ظروف
مريبة .. ثم اتهم العباس بن المأمون بالتآمر على عمه المعتصم فقتل
!
وفي
السجن ترك الإمام أحمد شهورا تحت الأصفاد شهورا طوالا، ودسوا إليه خلالها
عليه من يزينون له الاعتراف بخلق القرآن! .. وعادوا يذكرونه بجواز أن يقول
المؤمن غير ما يؤمن به أو يسكت على ما ينكره من باب التقية فقال لهم: "إذا
سكت العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق؟. إن من كان قبلكم كان أحدهم
ينشر بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه". دسوا عليه أكثر الناس تأثيرا عليه
وأقرب الناس إليه: عمه!! ولكن بلا جدوى
!
ثم
عادوا يخوفونه بالتعذيب والضرب بالسياط .. وأنس إلى جار له بالسجن فقال
له: ما أبالي بالحبس وما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلا بالسيف، وإنما أخاف
فتنة السوط وأخاف ألا أصبر". فقال له جاره السجين: "لا عليك. فما هو إلا
سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي". ومرت الشهور بعد الشهور والإمام أحمد في
حبسه بين الترغيب والترهيب .. واحبه من في السجن، فأحاطوا به يلقون عليه
المسائل فيجيب ويعلمهم مما علم رشدا .. وأكبره الجميع في السجن حتى
السجانون
.
أما
خارج السجن، فقد كانت بغداد تموج بالسخط، على من سجنوا الإمام أحمد!.
وتصاعدت نفثات التلاميذ والاتباع ورواد الحلقة، استنكارا لما حدث لإمامهم
!. أما
زملاؤه من العلماء والفقهاء الذين أجابوا المأمون لما أراد، فقد أسرعوا
إلى مصانعة المعتصم، وكانوا يتمنون في أعماقهم أن يسقط الإمام أحمد كما
سقطوا..! فلماذا يظل هو وحده دونهم نظيف الصفحات نقي السيرة مرتفع الهامة؟!
وإن بعضهم على الرغم من كل شيء ليعاني من تأنيب الضمير .. وأرسل إليه أحد
المعجبين به وهو شيخ في نحو التسعين ومن يقول له: "اثبت فقد حدثنا الليث بن
سعد عن
..
عن أبي هريرة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرادكم على معصية الله فلا تطيعوه"
وانشرحت
نفس الإمام أحمد، فهاهو ذا شيخ في التسعين يرسل إليه يشد أزره لا يبالي
بحديث شريف لم يعرفه من قبل! فقام في السجن يؤذن بالصلاة وعرف ابن أبي دؤاد
أن خصمه قد فتن كل من في السجن: المسجونين وحتى السجانين!! فأمر بنقله إلى
سجن خاص في قبو بدار والي بغداد، ليكون وحده. وضاعفوا له القيود والأغلال
وأقاموا عليه سجانين من شذاذ الخلق، من مماليك أتراك، فيهم الغلظة والغباء،
والجهل باللغة العربية فلا يفهمون ما يريد إن هو طلب منهم شيئا: ماء أو
نحوه
!
وأرسلوا
إليه من الفقهاء من يناظره، ولكنه لم يزد على ما قاله من قبل، وظل يرفض
القول بخلق القرآن. ثم حملوه إلى دار الخلافة وهو يرسف في أغلال وقيود
وسلاسل يكاد يسقط من تحتها..! .. فقد كانوا كلما مر عليه يوم، زادوا عليه
في ثقل الحديد! وكان الوزير وقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد قد أرسل إلى كل
ولاة الأمصار باسم المعتصم يأمرهم أن يمتحنوا العلماء والقضاة والفقهاء في
خلق القرآن، فمن أنكر منهم، حمل في الأصفاد مهانا إلى دار الخلافة ببغداد
..
ومثل
أحمد أمام الخليفة وحوله حشد من العلماء والفقهاء المنافقين وابن أبي دؤاد
.. وإذ بالإمام أحمد يرى في الأصفاد صديقا له من مصر، درس معه على الشافعي
في مكة وبغداد .. وهو الآن فقيه عالم تقي مسموع الكلمة في مصر .. وقد
سحبوه في سلاسل الحديث لأنه رفض القول بخلق القرآن
! .. وكان
أحمد منهكا مما عاناه، ولكنه حين شاهد صديقه الفقيه المصري تهلل قائلا:
"أي شيء تحفظ عن أستاذنا الشافعي في المسح على الحفين عند الوضوء؟!" وانفجر
ابن أبي دؤاد محنقا: "انظروا رجلا هو ذا يقدم لضرب العنق يناظر في الفقه؟
!".
بدأ الخليفة يحاكم أحمد بن حنبل.
يحكي
الإمام أحمد ما جرى في هذه المحاكمة: (قال المعتصم لأحمد بن أبي دؤاد:
"أدنه" فلم يزل يدنيني حتى قربت منه. ثم قال: "أجلس". وقد أثقلتني الأقياد.
فمكثت قليلا. ثم قلت: "تأذن لي في الكلام؟" فقال: "تكلم". فقلت: "إلام دعا
الله ورسوله؟." قال المعتصم: "شهادة ألا إله إلا الله." فقلت: "فأنا أشهد
أن لا إله إلا الله". ثم روى الإمام أحمد أن المعتصم قال له أنه لو لم يجده
في يد من قبله لما عرض له. ثم سأل أحدا ممن كانوا حوله: "ألم آمرك برفع
المحنة؟!". وأمر الفقهاء الموجودين فناظروا الإمام أحمد في خلق القرآن
.
قالوا له: "ما تقول في القرآن" ما تقول في علم الله عز وجل فسكت، فقال بعضهم: "أليس قد قال الله عز وجل
{ٱللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}( الرعد ،الآية : 16 )
والقرآن أليس هو بشيء؟" فرد الإمام أحمد: "قال تعالى:
أفدمرت إلا ما أراد الله عز وجل؟ والله تعالى لم يسم كلامه في القرآن شيئا. يقول الله تعالى:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف ، الآية : 24 )
فالقول ليس الشيء ولكن الشيء هو الذي يقول له الله. ويقول تعالى:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً}(يس ، الآية : 82 )
فالشيء ليس أمره وإنما هو ما يأمره .. وقال له بعضهم في الأثر "إن الله خلق الذكر أي القرآن". قال هذا خطأ. حدثنا غير واحد إن الله كتب (لا خلق) الذكر.
واحتجوا عليه بما رواه ابن مسعود: "ما
خلق الله عز وجل من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي"
فقال أحمد: "إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على
القرآن. وكان أحمد بن أبي دؤاد أقنع المعتصم نم قبل، أن من رفض القول بخلق
القرآن لا يحق له أن يجلس للناس، ليحدثهم أو ليفتيهم، في جامع أو في داره
أو في أي مكان، بل هو مخالف للإسلام، يجعل القرآن قديما كالله تعالى، فهو
مشرك يحل دمه!! وما عاد في أهل السنة بالعراق من يرفض الاعتراف بخلق القرآن
إلا إمامهم أحمد بن حنبل وهو يزنهم جميعا
!!
وكان
الخليفة المعتصم لقلة حظه من العلم لا يريد أن يخوض في المسألة كلها، فكان
يقول كلما اتهموا الإمام أحمد بن حنبل بالكفر: "ناظروه، ناظروه". فوثب
أحمد بن أبي دؤاد مغيظا: "يا أمير المؤمنين هو والله ضال مضل مبتدع."
وتتابع الفقهاء الحاضرون يشتمون الإمام أحمد بن حنبل فلم يعبأ الخليفة بهم
وقال لهم: "ناظروه
".
وكانوا كلهم قد ناظروه .. فاقبل ابن أبي دؤاد يناظره.
فلم يلتفت إليه الإمام أحمد.
فسأله
الخليفة: "ألا تكلمه؟" فقال أحمد: "لا أعرفه من أهل العلم فأناظره .." ثم
استطرد: "يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل". فاقبل
الخليفة يغري الإمام أحمد ويقول له: "والله إني عليه لشفيق. "ثم قال
للحاضرين" والله إن أجابني لأطلقن عنه يدي ولأركبن إليه بجندي
.
فلم
يزد جواب أحمد على أن قال: "أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل" .. وقال
الخليفة لأحمد: "ما أعرفك" فقال أحد الفقهاء الحاضرين وقد أنبه ضميره: "يا
أمير المؤمنين. أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتكم والحج والجهاد معكم." فقال
المعتصم: "والله إنه لعالم وإنه لعالم وإنه لفقيه. وما يسوءني أن يكون
مثله معي يرد عني أهل الشرك
.
ثم قال: "يا أحمد أجبني إلى شيء فيه أدني فرج لك، حتى أطلق عنك يدي" فقال أحمد: "أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل." ولم يزد على ذلك!
وقام
الخليفة مهموما، وأعيد أحمد إلى السجن وأرسلوا إليه من يناظره في السجن
وينذره: "أن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه
الشمس. ويقول إن أجابني أحمد أطلقت عنه يدي
."
فلم يجبه أحمد..!
وفي
اليوم التالي أعيد أحمد إلى مجلس الخليفة المعتصم، وكان الوقت رمضان ..
وأحمد قائم ليله صائم نهاره .. وقد أوشك الخليفة أن يطلقه لتهدأ عنه الثورة
التي أوشكت أن تنفجر في بغداد غضبا للإمام أحمد
.
فقال
ابن أبي دؤاد: "يا أمير المؤمنين أن العامة تصدقه .. والعامة تقول أن أحمد
بن حنبل قد دعا على المأمون فمات، إن العامة وهم حشو الأمة يصدقونه
ويتبعونه بالحق والباطل. فإن تركته شجعت عليك العامة وخالفت مذهب المأمون،
فيقول العامة أن أحمد غلب الخليفتين
".
واستفز هذا الكلام المعتصم فقال: "ناظروه لآخر مرة". وناظروا أحمد في خلق القرآن وفي رؤية الله تعالى فاحتج عليهم بحديث صحيح: "أما أنكم سترون الله ربكم كما ترون هذا البدر
"(وكان الرسول مع صحبه في ليلة البدر)! وشك ابن أبي دؤاد في صحة الحديث،
فأكد الإمام أحمد صحة الحديث واستشهد بفقيه فقير، مشهور بالأمانة والعفة،
يحسن رواية الأحاديث .. ولكنه كان فقيرا جهد الفقر لا يملك قوت يومه، وقد
اعتزل الناس، واختفى طوال أيام الامتحان بخلق القرآن، فتركوه. وأسرع إليه
بن أبي دؤاد وقد عرف من الجواسيس أين يختفي وسأله عن حاله، فلم يجد معه
درهما .. وسأله عن الحديث الذي رواه أحمد في المناظرة أمام المعتصم .. فقال
الرجل أنه حديث صحيح .. وألح عليه أن يكذب الحديث وقال أن مجلس الخليفة
منعقد وهو ينتظر الجواب، والخليفة في حاجة إلى من يكذب هذا الحديث .. ثم
أضاف .. هذه حاجة الدهر .. وأعطاه عشرة آلاف درهم، ومازال يلح حتى قال
الرجل: "في الإسناد من لا يعول عليه
"!
وأسرع
به ابن أبي دؤاد يروي ما سمعه على الخليفة في المجلس!! ودمعت عينا أحمد
أسفا على المحدث الفقير الذي انهار أمام الحاجة!! وأرجعوا أحمد إلى السجن
.. ليعودوا به في اليوم التالي إلى دار الخلافة، فيمروا به على قاعات عديدة
حشد فيها سجانون وسيافون غلاظ .. عسى أن يرهبه المنظر .. ويغريه الخليفة
الآخر مرة، فيأبى أن يقر بخلق القرآن فيصرخ فيه الخليفة: "عليك اللعن خذوه
واسجنوه
".
فأخذوا الإمام فعلقوه، وظلوا يضربونه ويقولون له: "أجب" فلا يجب. صبرا يا أحمد .. إنه بلاء في الله شديد.!
واشتد به الوجع واللظى وهو صائم .. وأغمى عليه .. حتى إذا أفاق جاءوه بماء ليشرب. فقال: "لا أفطر".
وطرحوه
على وجهه وداسوه بالنعال .. حتى أغمى عليه .. ورأوا دماءه تسيل فملئوا منه
رعبا! وعندما أفاق أحمد، أخذ ينظر إليهم بلا اكتراث، ولكنها نظرات يخالجها
الازدراء!! ويقول أحد الذين شاهدوا تعذيبه: "ما كنا في عينه إلا كأمثال
الذباب". ومن خارج دار الخلافة، اجتمع الآلاف من محبيه وتلاميذه، حتى الذين
لا يرون رأيه كانوا ينكرون في صراخ غاضب ما يحدث له. وتعالى هدير الاحتجاج
والاستنكار .. وأغراه أحد الحاضرين أن يعترف لينجو من العذاب ويخرج إلى
محبيه فقال: اقتل نفسي ولا اقتل هؤلاء جميعا
".
ودخل
أحد الفقهاء داره على بناته، فوجدهن يبكين ويطالبنه أن يذهب إلى المعتصم
مستشفعا للإفراج عن أحمد بن حنبل .. وقال البنات لأبيهن: "أدركوا ابن حنبل
قبل أن يضعف من التعذيب. فلأن يرسل إلينا نعي أبينا أهون علينا من أن نسمع
أن أحمد بن حنبل قد أذعن!!". ووقف أحد الفقهاء بباب المعتصم يصرخ "أيضرب
سيدنا؟! أيضرب سيدنا!؟ لا صبر لنا"وانفجرت الهتافات تلعن ابن أبي دؤاد
والمعتصم نفسه! وأوشكت الثورة أن تشغل في بغداد، وكان المعتصم يعد العدة
لجهاد الروم .. فلعن الجميع، وأمر أن يعفوه من كل هذا ليفرغ هو للحرب
.
وأطلق سراح الإمام أحمد ..
وأعيد
إلى بيته يعالج جراحه، ولزم داره مريضا منهكا .. وقيل له: سيعذب الله
المعتصم فيك لأنه ضربك وأنت ساجد .. فذكر لهم قول الله تعالى: "وجزاء سيئة
سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله". وعندما علم أن المعتصم خرج
ليحارب الروم فانتصر وفتح عمورية، فرح الإمام أحمد وقال!! عفا الله عنه بما
جاهد في سبيله
".
وقد
عوتب الجاحظ عن موقفه من محنة أحمد فقال: "لو كان كل كشف هتكا، وكل امتحان
تجسسا، لكان القاضي أهتك الناس لستر، وأشد الناس تتبعا لعورة". وكان تعليق
أحمد على قوله الجاحظ: "عفا الله عنه
". لقد
ظل أحمد في سجن المعتصم نحو عامين ونصف عام، يضرب بالسياط ويعذب بالسيف،
ويوطأ بالأقدام عندما يسجد في الصلاة .. ويغرونه خلال هذا التعذيب بكل
طيبات الحياة إن هو
.. عدل عن رأيه، وهو يهمهم لنفسه: إنه لبلاء في الله شديد.
وبعد
أن شفي أحمد من آثار التعذيب، خرج إلى حلقته، فاستقبلته بغداد استقبال
الفاتحين .. ولم يستطع أحد أن يمنع الناس عنه .. وعاد يحدثهم ويعلمهم كما
عودهم من قبل. حتى إذا مات المعتصم، وتولى الواثق، حاول أن يسير سيرة
المأمون .. وجمع إليه أهل العلم والفلسفة، وحفلت مجالسه بمناظرات علمية
وفقهية خصبة .. وناظر هو نفسه في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات. وكان
مجلسه يجمع المثقفين من جميع الديانات
.
ولقد
حاولوا أن يغروا الواثق بالإمام أحمد ولكنه سئم هذا الأمر، وخشي الثورة،
ورأى أن يترك الناس على آرائهم .. ثم أن القول بخلق القرآن صار مادة لعبث
ظرفاء العصر، فقد دخل على الواثق أحدهم يقول به: "عظم الله أجركم في
القرآن. فإن القرآن قد مات!". فنهره الخليفة الواثق قائلا: "ويلك! القرآن
يموت؟" قال: "يا أمير المؤمنين ألستم تقولون إن القرآن مخلوق؟ فكل مخلوق
يموت! فبم يصلي الناس التراويح؟". فضحك الواثق وقال: "قاتلك الله أمسك".
حقا لقد سئم الناس، وسئم الحكام .. إلا أن ابن أبي دؤاد .. فمازال بالخليفة
حتى استدعى الإمام أحمد فقال له: "لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد
أنا فيه
".
فاختفى
الإمام أحمد، وحمل إلى الواثق فقيه من الأمصار اشتد في الهجوم على من
يقولون بخلق القرآن .. وكان الرجل في الأصفاد، فأمره الخليفة أن يناظر ابن
أبي دؤاد
.. فقال
الرجل: "شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء
الراشدون من بعده وأنت تدعو الناس إليه، ليس يخلو من أن تقول علموه أو
جهلوه. فإن قلت علموه وسكتوا عنه، وسعني وإياك من السكوت ما وسع القوم. وإن
قلت جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع أين لكع، أيجهل رسول الله صلى الله عليه
وسلم والخلفاء الراشدون، وتعلم أنت!!". فوثب الواثق من مجلسه، وهو يردد
كلام الرجل ضاحكا، وأمر بإطلاق سراح الراجل. ولم يعد الواثق إلى امتحان في
خلق القرآن .. وانصرف إلى الحرب حتى مات
..
ومات الواثق وتولى ابنه المتوكل .. فاحسن إلى الإمام أحمد وحاول أن يصله بالمال .. ولكن
الإمام أحمد ظل على عهده يرفض العطاء. على أنه رخص لأولاده في قبول عطاء
الخليفة، وظل يعلم الناس حتى بلغ السابعة والسبعين، فمرض واشتد به المرض،
وكان قد أصبح في عصره أوحد عصره حقا .. وقد ألف كبار رجال الدولة أن يخوضوا
الطين إلى بيته الواقع في شارع ضيق مترب، موفدين من الخليفة يطلبون منه
الرأي. وما كان يبخل بالرأي
.. وقال عنه المتوكل: "لو نشر أبي المعتصم وقال فيه شيئا لم أقبله..".
ولم
يطل المرض بالإمام أحمد بن حنبل .. فمات بعد أن ترك ثروة ضخمة من الأحاديث
والفقه، وهو يوصي اتباعه وأصحابه أن يدعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة
الحسنة، ويذكرهم بأن الله تعالى قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون:
"اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا" .. فالقول اللين واجب في
الدعوة .. على أن اتباعه اشتدوا على الناس حين أزعجوهم وجعلوا الأجيال تنسب
إلى الإمام ما ليس فيه
..!
ولقد
أمر المتوكل بالضرب على أيدي اتباع الإمام أحمد حين هاجموا أهل البدع من
أصحاب الغناء والطرب ولاعبي الشطرنج .. وحين أفسدوا ملابس النساء بالحبر ..
وكان الإمام أحمد قد رخص بهذا للسلطان إن خرج النساء متعطرات متزينات ..
وكان النساء قد زحمن شوارع بغداد بملابس وعطور تثير الفتنة .. وملأن ليلها
بالمغامرة!! فانتزع اتباع ابن حنبل سلطة الخليفة، وأخذوا لهم يعاقبون الناس
.. فأمر الخليفة بأخذ اتباع الإمام أحمد بالشدة، وزج بهم في السجن، ولكنه
قال في الإمام أحمد: "لقد عرف الله لأحمد صبره وبلاءه ورفع علمه أيام حياته
وبعد موته. وأنا أظن أن الله تعالى يعطي أحمد ثواب الصديقين
." ..
على أن الإمام أحمد تدبر قبل موته رأيه في خلق القرآن.
فذهب
إلى أن من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، وزعم أنه غير مخلوق فهو مبتدع ..
فالقرآن بحروفه ومعانيه هو كلام الله غير مخلوق، وهو من علم الله، وعلمه
غير خلقه، فالقرآن غير مخلوق، ولكنه حادث بحدوث التكلم
..
والأمر
كله لا يستحق المحنة التي سقط بسببها شهداء كمحمد بن نوح، والبويطي الفقيه
المصري تلميذ الشافعي، ونال بسببها بعض الفقهاء والعلماء تشهيرا أزرى بهم
في عيون الناس، ونال فيها الإمام أحمد أبلغ الأذى
.. فالقول
بخلق القرآن أو عدم خلقه لا يحقق شيئا من مصالح العباد، ولا يقيم المجتمع
الأمثل الذي هو هدف الشريعة!! على أن الإمام أحمد نال بسبب هذا الأذى مكانة
كبيرة، فقد كان مثالا خارقا لصاحب الرأي الذي يناضل في سبيل رأيه ..
فأكبره الذين يوافقونه والذين يخالفونه على السواء .. إلا الذين في قلوبهم
مرض
!
ومهما يكن من أمر، فقد واجه عصرا تشيع فيه البدع، فواجهه بالتشدد في الأخذ بالسنة في العقائد والعبادات. وهو
عصر يطرح على العقل مستحدثات الأمور، فواجهه الإمام أحمد بالتيسير على
الناس في المعاملات. وبهذا حض على الاجتهاد وحذر من التقليد. ولكن مناصريه
من أهل السنة ضيقوا على الناس. ثم جاء من بعده اتباع أساءوا إليه، فافترى
عليه التزمت، والتضييق وكل ما عاشه يناضل ضده
!
وجاء
آخرون اجتهدوا على طريقته وتمسكوا بالسنة في مواجهة البدع .. واتخذوا مثله
مواقف صلبه فيما يعتقدون أنه الحق .. فأصابهم في ذلك بلاء شديد. ومن
الإنصاف للإمام أحمد بن حنبل أن ينزهه الناس بما صنعه بعض الأراذل من
اتباعه في العصور المتأخرة. فلا ينسب التزمت وضيق الأفق إلى هذا الإمام
العظيم
.. الذي كان متبعا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماحة الخلق، ولين الجانب، والقول الحسن، والبر والورع والتقوى ونصرة المظلوم.
من
الظلم أن يطلق على المتنطعين والجامدين وعلى كل فظ غليظ القلب: اسم
الحنابلة .. فقد كان الإمام أحمد داعيا إلى الحركة، ومواجهة كل عصر بأحكام
جديدة يقاس فيها على روح الشريعة، ويؤخذ بمقاصدها العامة .. وكان عدوا
للتقليد والجمود، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، متبعا للسنة في كل شيء
حتى في أخص دقائق الحياة
..
لقد
ماتت أول زوجة للإمام أحمد وهو في الستين، فتزوج بعدها بأيام لأنه علم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم منذ تزوج لم يعش بلا زوجة .. وماتت الثانية وهو
في السبعين، فتزوج بعدها بأيام من جارية له .. ثم أنه تعلم من سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجب ألا يعيش بلا امرأة!! وقد أصابه ابن
أبي دؤاد بأبلغ الأذى، ولكنه عفا عنه بعد أن خرج من المحنة، ولم يسمح لأحد
أن يجرحه أمامه، وبكى الإمام أحمد عندما علم أن ابن أبي دؤاد فجع بفقد ولده
!! ..
ودعا
الإمام أحمد لكل الخلفاء الذين أساءوا إليه ذلك أنهم جاهدوا في سبيل
الله!. وحض اتباعه على تأييدهم .. لقد كان الإمام أحمد يعلم الناس قول
الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما جاء إلا ليتمم وليكمل مكارم الأخلاق ..
من أجل ذلك احترم الإمام أحمد أهل الديانات السماوية التي سبقت الإسلام،
لأن الرسالة المحمدية، ما جاءت إلا مكملة لها .. وأخذ نفسه وأصحابه بمكارم
الأخلاق .. وعلم الناس أن هدف الشرائع جميعا ه العدل لقوله تعالى: "لقد
أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
".
ومن
أجل ذلك طالب أهل الشرائع جميعا أن يسيروا في الناس بالعدل، وأن يناضلوا
دفاعا عن العدل، فهو قوام الحياة وضمان الحرية، وحصن الإنسان. والإمام أحمد
بن حنبل على الرغم من كل خلاف معه، إمام قد أغنى الفقه، ونفع الناس، وأقام
السنة وردع البدع .. ولئن أساء إليه بعض اتباعه، فافترى عليه ما هو برئ
منه، إنه سيظل بنصاعة سيرته، وصلابة اتباعه ل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:33 pm

الإمام الشافعي





على
الرغم من أن الإمام الشافعي لم يكن قاضيا في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه
"قاضي الشريعة" .. ومازال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظا من
التعليم يتجهون إلى ضريح الشافعي في الحي المعروف باسمه في القاهرة،
فيقدمون الظلامات، ويسألون الله تعالى أن يقضي لهم حاجاتهم، ويرد عنهم
الظلم، متوسلين بالإمام الشافعي قاضي الشريعة
.
وقد
شاع بين أهل مصر أن الإمام الشافعي هو قاضي الشريعة، منذ قدم إلى مصر عام
199 هـ، وهو يخطو إلى الخمسين، رجلا طويلا ممشوق القامة، فارسا، أسمر
كأبناء النيل، بشوشا ضاحك الوجه، مهذب اللحية، يصبغ لحيته وشعره بالحناء
اتباعا للسنة، عذب الحديث، رخيم الصوت، يشع البريق من عينيه بصفاء الود لمن
يراه، على الرغم مما يثقل جفنيه من أثار السهر، وطول التأمل وإعمال الفكر،
وكثرة التجول بروحه وجسده بحثا عن حقائق الشريعة!!.. في ثياب خشنة نظيفة،
متكئا على عصا غليظة، كأنه حاج ورع أو جواب آفاق
..!
وفي
الحق أن المصريين لم يخطئوا في إطلاق اسم قاضي الشريعة على الإمام
الشافعي، فما كاد يطأ أرض مصر حتى بحث عن قبر الإمام الليث بن سعد فوقف
عليه مستعبرا .. ثم بحث عن آراء الليث وفقهه. فوجد المتعصبين من أعداء
الليث وحساده، قد أخفوا كل كتبه تحت التراب أو أحرقوها..! وظل يبحث عن كتاب
"مسائل الفقه" الذي كتبه الليث بيده، وكتاب التاريخ. وكتابه في التفسير
والحديث، وكتبه عن منابع النيل. وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوت من أساطير
وروايات تصور تاريخ الفكر المصري ومقومات شخصية أهل مصر .. فلم يعثر
الشافعي على شيء من ذلك كله إلا بعض مسائل وآراء واجتهادات حفظها بعض
تلاميذ الإمام الليث، وكان الشافعي قد لقي أحدهم في المدينة، وأحدهم في
اليمن فتلقى عنهما بعض فقه الليث
...
وأدرك
المصريون أن هذا الإمام الجديد، سيحيى على إمامهم الراحل الليث ابن سعد
الذي كادت أثاره أن تندثر ولما يمض على رحيله غير ثلاثة أو أربعة أعوام!!
وكان أكثر ما أعجب المصريون من إمامهم الليث حرصه على الشريعة، بحيث يتحرى
في كل فتوى أن يقيس على نص قرآني، أو على سنة ثابتة، أو إجماع صحيح إن لم
يجد ما يطلب في النصوص أو الإجماع، بحيث يسد الطريق على من يستنبطون الحكم
بما يستحسنون أو بما يرونه محققا للمصلحة .. ويشرعون بهذا السلوك في الفتيا
للولاة أو القضاة الظالمين أن يحكموا بالهوى
..!!
هاهو
ذا إذن إمام جديد يريد أن يحيي آثار الليث، وأن يلزم أصول الشريعة فيما
يستنبط من أحكام، وهو يضيف إلى فقه الليث اجتهاده الخاص، ويجادل عن الشريعة
ويعلن للناس منذ اتخذ مجلسه للفتيا في جامع عمرو بالفسطاط أن القرآن فيه
حكم كل شيء، وأن السنة تفصيل وبيان لما في القرآن بكل أوجه البيان، فعلى من
أراد أن يجتهد أن يكون عليما بالقرآن والسنة، وقضايا الصحابة وإجماعهم،
فقيها باللغة العربية، وبأسرار البلاغة فيها، وبقواعد نحوها.

ولن يبلغ هذا العلم حتى يكون قد حفظ الشعر الذي قاله العرب قبل الإسلام، وبالعربية التي كان يتحدث بها البدو وقت نزول القرآن.
فقد اعترف ابن عباس وهو عليم بالتفسير أنه لم يفهم قول الله تعالى: {فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضٍِ} (فاطر،الآية:1)حتى
سمع بدوية تقول عن وليدها: "أنا فطرته"، تعني أنشأته وأوجدته .. فعلم أن
كلمة فاطر بمعنى: منشئ أي خالق. فإذا اجتمع لرجل علم ذلك كله من قرآن وسنة
وأقوال الصحابة، وفقه اللغة العربية حق له أن يجتهد
!
والاجتهاد
هو بذل الجهد، ففيه مشقة .. فإذا اجتهد العالم ليجد حكما أو ليصدر فتوى
فليبحث أول الأمر في الكتاب والسنة، لأن الكتاب ـ وما السنة إلا بيان له ـ
فيه كل الأوامر والنواهي، وما كان ربك ليترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي ..
فإن اجتهد العالم فهو عالم وفقيه .. فإن لم يجد الفقيه في الكتاب والسنة أو
إجماع الصحابة حكما ينطبق على الأمر الذي يعرض له فعليه بالقياس .. ولا
قياس مع النص ولا سبيل غير القياس إلى الأحكام التي تواجه الأمور المستحدثة
التي لا نص على حكمها
..
بهذا النظر جاء الإمام الشافعي إلى مصر..
على أن الحياة في مصر طالعته بفقه جديد مما أثر عن الليث بن سعد .. واجهته
بكثير من الأمور المستحدثة التي لم تواجه مثلها من قبل .. وكان الشافعي
حين قدم إلى مصر وأقام بها حتى توفى فيها سنة 204 هـ، كان عالما ويحفظ
القرآن والحديث ويعرف إجماع الصحابة ويتقن اللغة العربية وعلومها وآدابها
.. كان كل أولئك، وكان بعد رجلا عرك الحياة وبلاها، وتجول في كثير من
البلاد، واجتهد وأصبح صاحب مذهب، ونشأت له من خلال هذه التجارب كلها مودات
وعداوات .. كثير الأسفار ينتقل هنا وهناك ليتعلم هو ويعلم الآخرين
..
عرف
الحياة منذ ولد جهادا متصلا في سبيل العيش وفي سبيل العلم .. ومن الحق أنه
قدم مصر وله مذهب في الفقه ولكنه لم يكد يقيم في مصر حتى غير كثيرا من
آرائه، وأعاد كتابة كتبه. فقد عرف في مصر ما لم يكن قد عرفه من قبل .. صحت
عنده أحاديث كثيرة سمعها لأول مرة في مصر، نقلا عن الإمام الليث. وبهره ما
استطاع أن يصل إليه وإن يتعلمه من فقه الليث وآرائه وفتاواه وعرف آراء
جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الإطلاع عليها من قبل
..
ثم
إنه عرف حضارة وتقاليد وأعرافا كلها جديدة عليه، ليس كمثلها شيء مما رأى
في مكة أو المدينة أو اليمن أو سوريا أو العراق .. عاين انطلاقا في الفكر
مع التمسك بروح الشريعة، وتحررا في الرأي مع التزام مقاصد الشارع، ورأى أن
مالك بن أنس يخالفه بعض الفقهاء في مصر متأثرين بإمامهم الليث بن سعد، وما
كان يعرف أن الإمام مالك بن أنس يخالفه أحد من قبل إلا في ست عشرة مسألة،
خالفه فيها أهل الرأي بالعراق
..
وناظر
بعض تلاميذ الليث في خلاف إمامهم مع أستاذه مالك وأقنعه رأي الليث، وهاله
ما رأى وسمع من تعصب بعض اتباع مالك في مصر وما يليها من المغرب العربي كله
والأندلس للإمام مالك، حتى لقد كان الناس في المغرب والأندلس يتبركون
بملابس للإمام مالك أخذها منه أحد تلاميذه، فكانوا إذا دهمهم الجفاف وتأخر
المطر، وصلوا صلاة الاستسقاء اتجهوا إلى قلنسوة للإمام مالك يستسقون بها
..!
ورأى
الشافعي في مصر اتباع الإمام الليث يسخرون بهذا كله، ويتهمون صانعيه
بإحياء الوثنية، وبالشرك بالله تعالى .. وسمع سخرية اتباع الإمام الليث من
اتباع الإمام مالك حين يتناظرون .. إذ يروي اتباع الإمام الليث الحديث
الشريف عن سنده إلى أن يقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد
اتباع الإمام مالك "قال أستاذنا وشيخنا الإمام مالك" .. فيقول اتباع الليث:
"نقول لكم قال الرسول عليه الصلاة والسلام فتقولون بإزائه قال الإمام
مالك؟ أجعلتموه في مقام الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ .. لو كان
الإمام مالك رضي الله عنه حيا لأفتى بأنكم ارتددتم عن الإسلام
".
كان
المصريون يجلون الإمام مالك بن أنس، على الرغم من أنهم يأخذون بآراء
إمامهم الليث بن سعد في خلافه مع الإمام مالك .. ولكنهم كانوا يضيقون بتعصب
بعض اتباعه، ويعتبرون تعصبهم وشططهم خروجا على منهج الإمام مالك، وإساءة
لذكراه، وهو الذي عاش يحمل في كل سيرته تقاليد السماحة الإسلامية وتراث
الحكمة والموعظة الحسنة
..
رأى
الشافعي عناصر جديدة من الرأي والفكر والحضارة في مصر، واطلع على ما
أنتجته المدرسة المصرية في الفقه بزعامة الإمام الليث بن سعد الفقهاء، فبدأ
يعيد النظر في كثير من آرائه
.. وبصفة
خاصة تلك التي اتبع فيها أستاذه مالك .. أو التي تأثر فيها فقه أهل
المدينة وإمامها مالك .. فألف كتابا فيما اختلف فيه مع مالك .. ولكنه
استحيا أن يصدره
. ومازال
قريب العهد من الجلوس إلى مالك مجلس التلميذ .. وأبقى الكتاب ينظر فيه
ويعدل عاما بأسره ثم أصدره .. وعندما عوتب في هذا قال: "إن أرسطو تعلم
الحكمة عن أفلاطون ثم خالفه قائلا إن صديقي والحق صديقي فإذا تنازعنا فالحق
أولى بالصدقة
".
بهر
الشافعي إذن بما شاهد في مصر من مظاهر الحضارة والتقدم والتزاوج الفكري
بين الإسلام ومعطيات الحضارات التي تشكل الوجدان المصري: الحضارات القبطية
والمصرية القديمة واليونانية. وهو ما لم يعرفه من قبل .. ثم الفهم العميق
لروح الشريعة الإسلامية، وتطويع الأحكام لكل مقتضيات الحاجة الإنسانية
المشروعة، مما يقيم المجتمع الفاضل الذي هو هدف الشريعة ومقصدها الأسمى
..
حتى إذا انتهى الإمام الشافعي من إعادة صياغة كتبه وتصحيح آرائه على أساس العنصر الجديد الذي تدخل في صياغة وجدانه وعقله. أعلن
للناس أن آراءه ليست إلا التي كتبها في مصر. أما كتبه السابقة فلا يحق
لأحد أن ينسبها إليه .. وكتب بذلك إلى أقرب أصحابه وتلاميذه إليه احمد بن
حبل فكان الإمام احمد يقول: "خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر
".
ولكن
الشافعي لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد مشقات جسام عبر رحلة عمر كابد
فيها الأهوال، حتى لقد رأى الموت رأى العين ذات مرة. وقضى عمره كله في
العيش الضنك على الرغم من ارتفاع همته ولقد عبر عن ذلك بقوله
:
وأحـق خـلـق الله بالـهم امـرؤ ذو هـمة يبـلى بعيـش ضـيق
ولد
الشافعي سنة 150 هـ في غزة وهي السنة التي توفى فيها أبو حنيفة إمام أهل
الرأي في العراق وفي هذا تمازح أحد الفقهاء من المذهب الحنفي وفقيه من
المذهب الشافعي قال الحنفي "إمامكم كان مخفيا حتى ذهب إمامنا" فقال صاحبه:
"ونحن الشافعية نقول لما ظهر إمامنا هرب إمامكم
".
ولد
في عصر كثر فيه الجدل بين أهل الحديث وأهل الرأي وتعصب كل فريق ضد الآخر،
فكان من أهل الحديث من يرفض الرأي إطلاقا، ومن أهل الرأي من لا يقتن حفظ
عدد صالح من الأحاديث .. وهو عصر ميز بين العالم والفقيه، أو بين العلم
والفقه: فالعلم هو حفظ القرآن والأحاديث وآثار الصحابة .. أما الفقه فهو
إعمال الفكر والاجتهاد والتأمل وشحذ العقل لاستنباط حكم شرعي فيما لا نص
فيه
.. وقد يجمع الرجل الواحد بين العلم والفقه وهؤلاء هم الأئمة العظام والفقهاء.
وقد
روى عن أحد التابعين قوله: "ما رأيت أفقه من ابن عمر، ولا أعلم من ابن
عباس" وكان أهل الحديث يقفون عند النصوص لا يعدونها فإن لم يجدوا حكما
فيها، لا يفتون. وأما أهل الرأي فقد نظروا في عطل الأحكام، وأسنبطوا من
النصوص أحكاما لما لم يرد نص على حكمه، إعمالا للعقل، وإلحاقا للأمور
بأشباهها ونظائرها إذا وجدت علة الحكم. وقد بلغ من وقوف بعض أهل الحديث عند
ظاهر النص حدا أثار بهم سخرية أهل الرأي، وبلغ من انطلاق أهل الرأي في
استنباط الأحكام حيث جعل أهل الحديث يتهمونهم
!!
وقد سأل أحد أهل الرأي واحدا من أهل الحديث في أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما الزواج.
فقال صاحب الحديث: تثبت بينهما حرمة الرضاع "فسأله صاحب الرأي: "بأي نص" فقال صاحب الحديث:
"بقوله صلى الله عليه وسلم كل صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم أحدهما على الآخر"
فقال
صاحب الرأي ضاحكا: "قال الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمعا على ثدي واحد لا
على ضرع واحد" إنما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمي. فلو أنك
أعملت العقل والرأي ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة
!
وكان أصحاب الرأي يتهمون أصحاب الحديث "بالعجز
عن النظر، وبأنه كلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالا أو إشكالا بقوا
متحيرين، ومن أجل ذلك فهم ليسوا أنصاراً للسنة، بل إن أهل الرأي اكثر
انتظاراً للسنة واتباعا له من هؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل السنة
!
أما
أهل الحديث فاتهموا أهل الرأي بأنهم يأخذون بالظن .. على أن مالك بن أنس
إمام أهل الحديث لم يكن يرى هذا الرأي في الإمام أبي حنيفة إمام أهل الرأي
فقد قال فيه: "اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتا وكلمته في مسائل كثيرة
فما رأيت رجلا أفقه منه ولا أحرص منه على معنى وحجه
.
"ولكن
اتباع الإمامين كان فيهم من يتعصب لشيخه، ومن هؤلاء الاتباع من كان يشغل
على الآخر .. حتى لقد عيروا أبا حنيفة ببعض حيله، وإن كان مالك ليضحك كلما
ذكرها، ذلك "أن الموالي وهم المسلمون من أهل البلاد المفتوحة" قدموا الكوفة
وكان لرجل منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي. وادعى أنها
زوجته، وادعت المرأة أيضا ذلك: وعجز المولى زوج المرأة عن البينة، فعرضت
القضية على أبي حنيفة .. وكان من رأي أهل الحديث أن المرأة للكوفي ولكن أبا
حنيفة لم يطمئن إلى الأخذ بهذا الظاهر كما صنع أهل الحديث
.
ورأى
أن يحقق الأمر بنفسه .. وشك في ادعاء الزوجة والكوفي فأخذ جماعة من الناس
ومعهم بعض أهل الحديث، وذهبوا إلى حيث كان ينزل الموالي فنبحت كلابهم وهمت
أن تهاجمهم كما تفعل مع الغرباء .. ثم عاد أبو حنيفة وأخذ الزوجة ومعها
شهود من أهل الحديث، وأمر الزوجة أن تدخل وحدها إلى منازل الموالي. فلما
قربت بصبص الكلاب حولها. كما تفعل بأصحابها فقال أبو حنيفة: "ظهر الحق".
فانقادت المرأة واعترفت أنها كذبت .. وعادت إلى زوجها. وسخر أهل الرأي من
أهل الحديث في هذه القضية
..
على
هذا النحو كان الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي .. حتى أن الشافعي عندما
بدأ يطلب العلم في مجالس أهل الحديث، جلس بعد الدرس في بيت صاحب له يناشدان
الشعر، فأتى الشافعي على شعر الهذليين وقال لصاحبه: "لا تعلم بهذا أحداً
من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا" ذلك أن أهل الحديث كان فيهم من يغلو
فيرى في حفظ الشعر ودراسة الأدب علما غير نافع .. فالعلم عند هذا النفر هو
القرآن والحديث وأثار الصحابة فحسب .. أخذ الشافعي يناطح هذا كله .. ويقاوم
التعصب للحديث وللرأي جميعا
..
ليكون
هدف المناظرة هو الوصول إلى حقائق الشريعة، لا غلبة المتناظر على خصمه ..
ولكنه على الرغم من ذلك انحاز إلى أهل الحديث أول الأمر، وخاصم فيهم أهل
الرأي، حتى إذا استقر به المقام في مصر تلك السنوات الأخيرة من حياته
القصيرة (150 ـ 204 هـ) تعلم أن الإمام الليث كان قد اهتدى إلى مذهب وسط
بين أهل الحديث وأهل الرأي، معتمدا على استيعاب يقظ لروح الشريعة ومقاصدها،
فأعجب بأصول مذهب الليث وفروعه وزاد عليه وأضاف، ونقح في خمس سنوات عاشها
في مص كل ما كان في مصر باسم "المذهب الجديد
".
والشافعي هو محمد بن أدريس بن العباس بن شافع (وقد نسب إلى هذا الجد) ابن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف .. والمطلب
هو شقيق هاشم بن عبد مناف .. وهاشم هو أبو عبد المطلب جد النبي صلى الله
عليه وسلم وكان هاشم يقود رحلة الشتاء إلى الشام بقافلة قريش في الجاهلية
ومات ودفن بغزة. أما والدة الشافعي فهي حفيدة أخت السيدة فاطمة أم الإمام
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
.
وكان
الشافعي يقول: "علي بن أبي طالب ابن عمي وابن خالتي". فهو قرشي الأب والأم
وكان أبوه فقيرا خرج من مكة يلتمس سعة من العيش في المدينة، ولكنه لم يجد
ما يريد، فخرج بأهله إلى غزة، ومات بها بعد مولد ابنه محمد بنحو عامين. ولم
تطق الأم المقام في غزة بعد وفاة زوجها، فحملت وليدها محمدا إلى عسقلان
وهو ابن عامين، و كان يرابط بها جيش من المسلمين، وكانت عسقلان تسمى إذ ذاك
(عروس الشام) "وخيرها دافق والعيش بها رائق
".
غير
أن العيش لم يرق للأرملة الصغيرة في عسقلان، فحملت ابنها محمد إلى مكة
موطنها ومواطن آبائه وأجداده، ليعيش في قومه قريش، ولينال نصيبه من المال،
وهو سهم ذوي القربى ولكن حظه من هذا المال كان ضئيلا لم يسمح له ولأمه إلا
بحياة خشنة، عرف خلالها الحرمان منذ نعومة أظفاره
.
وعندما شب الطفل ألحقته أمه بمكتب في مكة. ولكنها لم تجد أجر المعلم. "فكان
المعلم يقصر في تعليم الصبي إلا أن المعلم كلما علم صبيا شيئا كان الشافعي
يتلقف ذلك الكلام. ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان
تلك الأشياء فنظر المعلم فرأى الشافعي يكفيه من أمر الصبيان اكثر من الأجرة
التي يطمع بها منه فترك طلب الأجرة واستمرت هذه الأحوال حتى تعلم الشافعي
القرآن كله وهو ابن سبع سنوات". ثم وجهته أمه إلى إتقان تلاوة القرآن
وتجويده وتفسيره على شيوخ التفسير والترتيل والتجويد في المسجد الحرام ..
حتى إذا بلغ الثالثة عشرة، كان قد أتقن القرآن حفظا وترتيلا وإدراكا لما
يقرأ بقدر ما يتيحه عمره
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:34 pm

وكان عذب الصوت .. في
ترتيله خشوع. وإيقاع حزين تخالجه الرهبة من خشية الله .. فكان حين يقرأ
القرآن في المسجد الحرام يتساقط الناس بين يديه. ويكثر عجيجهم بالبكاء من
حسن صوته. فإذا رأى ذلك أمسك بعد ذلك اتجه إلى حفظ الحديث، ولزم حلقات شيوخ
التفسير وأهل الحديث
. وكان
الورق غالي الثمن، فكأن يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها، أو يذهب إلى
الديوان فيجمع الأوراق المهملة التي ألقى بها. فيكتب على ظهرها .. كان يجد
مشقة في الحصول على ورق الكتابة، فاعتمد على الحفظ وهكذا تكونت له حافظة
قوية .. حتى لقد كان يحفظ كل ما يلقى عليه.

احظ
أثناء إقامته في مكة أن لغة قريش قد دخلها الغريب من كلمات وتعبيرات
المسلمين الجدد من الموالي غير العرب. فلم يعد لسانها هو اللسان العربي
المبين
..!
ثم
إنه في تأمله للقرآن والأحاديث شعر بأنه في حاجة إلى زاد لغوي كبير وإلى
تفهم أعمق لمعاني الكلمات وأسرار التراكيب .. وكان يشهد دروس الليث ابن سعد
إمام مصر وهو حينذاك فقيه كبير يتحلق حوله الطلاب في المسجد الحرام كلما
جاء حاجا أو معتمرا .. في إحدى حلقات الليث إلى جوار مقام إبراهيم، نصح
مستمعيه أن يتقنوا اللغة وأسرار بلاغتها وفنون آدابها. وأن يحفظوا الشعر
الذي سبق نزول القرآن الكريم وعاصره ليحسنوا فهم معاني الكتاب المنزل
والأحاديث
..
ولكن
نصح الإمام الليث مستمعيه أن يخرجوا إلى البادية فيتعلموا كلام (هذيل)
ويحفظوا شعرهم .. فهذيل هم أفصح العرب، وشعر الهذليين عامر بكنوز اللغة.
ولقد حفظ الليث نفسه أشعار الهذليين .. واستشهد بها في تفسير بعض كلمات
القرآن. كما فعل ابن عباس من قبل وهو شيخ المفسرين. وخرج الفتى محمد بن
إدريس الشافعي إلى بادية قريبة من مكة وعاش في مضارب خيامهم، يحفظ عنهم
أشعارهم وتراكيبهم اللغوية، يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويتعلم منهم
.
ثم
رجع إلى مكة ينشد أشعارهم، ويذكر عنهم الأخبار .. كما قال هو نفسه حتى أن
الأصمعي وهو شيخ اللغويين قال وهو في أوج شهرته: "صححت أشعار الهذليين على
فتى من قريش يقال له محمد بن أدريس ..لزم الشافعي هذيلا نحو عشر سنين، عكف
فيها على دراسة اللغة وآدابها. وحفظ الشعر، وتعلم منهم الرماية والفروسية
وبرع فيهما، حتى لقد كان يأخذ بأذن الفرس وهو يجري فيثب عليه في براعة
وتمكن
.!
وأتقن
الرمي، حتى قال عندما تقدم به العمر: "كانت همتي في شيئين في الرمي والعلم
فصرت في الرمي بحيث أصيب عشرة من عشرة "ثم سكت عن العلم، فقال أحد
الحاضرين: "أنت والله في العلم اكثر منك في الرمي". عاد من البادية إذن
فارسا متفوقا في البداية في الرماية، ناصع البيان، في صدره إلى جوار القرآن
والحديث، ثروة ضخمة من الشعر والآداب والأخبار والفقه واللغة. وعاد يجلس
إلى حلقات شيوخه في المسجد الحرام. جلس إلى أهل الحديث
والمفسرين من أتباع ابن عباس. وإلى العلماء والفقهاء من اتباع الإمام جعفر الصادق .. وكانوا جميعا ينهلون من علم الإمام علي بن أبي طالب.
وعلى
الرغم من أنه قد جاوز العشرين، وأصبح يملك القدرة على اختيار شيوخه في
المسجد الحرام، فقد تعود أن يسأل أمه النصيحة، فتشير عليه بأسماء الشيوخ
الذي ينبغي له أن يلزمهم .. وكانت أمه حافظة للقرآن والحديث، بصيرة بأحكام
الشريعة. ولقد ردت قاضي مكة حين استدعاها للشهادة هي وامرأة أخرى وأراد أن
يفرق بينهما، فظلت أن تشهد الواحد أمام الأخرى
. وذكرته بالآية الكريمة: أن تضل إحداهما. فتتذكر إحداهما الأخرى".
وكان
الشافعي بارا بوالدته .. مستمعا لنصائحها وقد وجهته إلى فقه الإمام علي بن
أبي طالب، ونصحته أن يلتمسه من تلاميذ ابن عباس وتلاميذ الإمام جعفر
الصادق .. وكان مقاتل بن سليمان هو أعلاهم شأنا وأبصرهم بالقرآن وتفسيره
بالحديث والفقه .. وقد توقف الشافعي وهو ينظر في تفسير القرآن عند آية:
"وقد خاب من دساها" .. ولم يعرف معنى كلمة دساها، فلم تكن قد عرضت له من
قبل. ولم يجد الكلمة فيما تعلم من لغة العرب. وخرج إلى ظاهر مكة يسأل فيها
بطنا من هذيل، وهم أفصح العرب، فلم يجد عندهم جوابا
.
وطاف
على شيوخ الحلقات من أهل الأثر ومفسري القرآن، فلم يظفر بجواب شاف .. وهمه
الأمر وغمه، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته إلى مقاتل بن سليمان تلميذ
الإمام الصادق وذهب الإمام الصادق وذهب الشافعي إلى حلقة مقاتل ابن سليمان
فقال له مقاتل: دساها من لغة السودان "ومعناها" أغواها .. اكتمل للشافعي
علم حسن بالقرآن والحديث وآثار الصحابة، وثراء لغوي يفتح مغاليق المعاني،
وذوق أدبي يتيح له أن يدرك لطائف البلاغة وأسرار البيان
.
وقال له أحد شيوخه: "آن لك أن تفتي".
ولكن الشافعي تهيب الفتيا، فما كان إلا شابا صغيرا في سن أبناء المفتين من أصحاب الحلقات في المسجد الحرام .. وهو
بعد لم يحصل على كل ما يريد من فقه المدينة، حيث يشع علم الإمام مالك، ولا
من فقه العراق حيث مازال صدى جليل من آراء الإمام الراحل أبي حنيفة يدوي
في جنبات المسجد الكبير بالكوفة، وحلقات بغداد، وحيث مازال تلاميذه أبو
يوسف محمد ابن الحسن وغيرهما يجادلون عن إمامهم ويضيقون إلى تراثه الجدلي
.
ثم
إن الفتى لم يعرف كما ينبغي فقه الأوزاعي بالشام، ولا فقه الإمام الليث
بمصر .. هذا الفقه الذي اتسم بالتوفيق بين أهل الرأي وأهل الحديث، والذي
يحترم الحزبين جميعا، يتميز بعمق الإدراك لروح الشريعة ومقاصد الشارع،
ويواجه في يسر معجز كل ما يطرحه العصر من مسائل وقضايا. وقرر أن يرحل في
طلب الفقه من كل مدارسه، كما رحل من قبل يلتمس الفصحى من خير منابعها
.
وأستاذن
أمه أن يرحل إلى المدينة ليدرس علي الإمام مالك فأذنت له .. كان الفتى إذ
ذاك في نحو العشرين، خلبه مالك حين جاء إلى المسجد الحرام فألقى بعض
الدروس، وأخذته هيبة مالك وحسن معرفته بالحديث. وعرف عن مالك أنه على الرغم
من سماحته، صارم في عمله، لا يبيح وقته للناس، ولا يستقبل من يطرح باب
داره خلال ساعات العمل أو الراحة .. ولكن الشافعي لا يريد أن يكتفي بحضور
دروس مالك في المسجد النبوي، وهي مباحة للعامة، بل يريد أن يلزمه ليتلقى
منه علمه، وليتاح له أن يسأله ويحاوره
..
ومالك
لا يأذن بالحوار في دروسه ويطرد من حلقته كل من خالف تقاليد الدرس..‍‍!!
ما السبيل إلى الإمام مالك إذن!؟ قرر الشافعي أن يحسن إعداد نفسه للقاء
الإمام مالك .. فبحث عن كتابه "الموطأ" الذي أخرجه مالك منذ حين واضعا فيه
كل فقهه وكل ما صح عنده من الأحاديث النبوية الشريفة. ووجد الشافعي نسخا من
لكتاب ولكنها غالية الثمن، وهو رقيق الحال .. فاستعار الكتاب من أحد شيوخه
في مكة وعكف عليه النهار والليل، حتى حفظ الكتاب، بحافظته المدربة التي
تعود الاعتماد عليها منذ كان لا يجد ثمن الورق، ومنذ كان يدرس بالمكتب وهو
صبي
.
وزاده حفظ كتاب "الموطأ"
شوقا إلى لقاء الإمام مالك وإلى صحبته..! وجهزته أمه للسفر إلى المدينة
وباعت في ذلك بعض أثاث الدار .. إنها لهجرة في سبيل العلم فهي في سبيل الله
.. ورأت أمه أن تسهل له لقاء مالك، فوسطت بعض أقاربها إلى والي مكة، ليعطي
ولدها كتابا إلى والي المدينة، عسى أن يتوسط للشافعي مالكا ويلزمه. ويحكي
الشافعي عن هذه التجربة بعد أن أخذ كتاب توصية من والي مكة إلى والي
المدينة وإلى الإمام مالك
.
قال
الشافعي: "فقدمت المدينة، فأبلغت الكتاب إلى الوالي فلما قرأه قال: يا فتى
إن مشيي من جوف مكة إلى جوف المدينة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى
باب مالك بن أنس
. فلست
أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: أصلح الله الأمير. إن رأى الأمير يوجه
إليه ليحضر. فقال: هيهات ليت أتي لو ركبت أنا ومن معي، وأصابنا من تراب
العقيق نلنا بعض حاجتنا
..!
فواعدته
العصر، وركبنا جميعا فوالله لكان كما قال. لقد أصابنا من تراب العقيق،
(والعقيق حي بالمدينة يسكنه مالك) فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا
جارية سوداء فقال لها الأمير: (قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت فأبطأت ـ ثم
خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول إن كانت لديك مسألة فأرفعها في
رقعة يخرج إليك الجواب. وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف، فقال
لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. فدخلت وخرجت وفي
يدها كرسي. فوضعته ثم إذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار وهو شيخ طويل
مسنون اللحية، فجلس وهو متطلس (يلبس الطيلسان) فرفع إليه الوالي الكتاب.
فبلغ إلى هذا (أن هذا رجل يهمني أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع) فرمى
الكتاب من يده ثم قال: سبحان الله. أو صار علم رسول الله صلى الله عليه
وسلم يؤخذ بالرسائل؟
!
فرأيت
الوالي قد تهيب أن يكلمه. فتقدمت وقلت: أصلحك الله. إني رجل مطلبي "من بني
المطلب) وحدثته عن حالي وقصتي .. فلما سمع كلامي نظر إلي، وكان لمالك
فراسة فقال: ما اسمك: قلت محمد فقال: " يا محمد إنه سيكون لك شأن وأي شأن.
إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية
. إذا
ما جاء الغد تجئ ويجئ ما يقرأ لك". فغدوت عليه ومعي "الموطأ" وابتدأت أن
أقرأ ظاهرا (من الحافظة) والكتاب في يدي. فكلما تهيب مالكا وأردت أن أقطع،
أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: (يا فتى زد). حتى قرأته عليه في أيام
يسيرة". ومنذ ذلك اللقاء عام 170 هـ لزم الشافعي مالكا حتى مات الإمام مالك
عام 179 هـ
.
لم
يتركه الشافعي إلا ليزور أمه بمكة. أو ليقوم برحلة إلى إحدى عواصم العالم
والفقه .. وكان يستأذن شيخه مالك بن أنس فإذا أذن له جهزه بزاد ومال ودعا
الله له. وفي المدينة التقى الشافعي بمحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وشيخ
أهل الرأي في العراق، والتقى ببعض تلاميذ جعفر الصادق، وتعلم منهم بعض فقه
الإمام الصادق وأقضية الإمام علي كرم الله وجهه .. وتعلم من مذهب الإمام
الصادق أن العقل هو أقوى أدوات الاستنباط حين لا يكون نص. العقل وحده هو
أداة فهم النصوص لا الاتباع ولا التقليد
!
وتعلم
من تلاميذ الإمام الصادق رأي الإمام في حقيقة العلم .. فالعلم ليس حفظ
القرآن والحديث ومعرفة الآثار فحسب، ولكنه يشمل كل العلوم الطبيعة
والرياضية التي تفسر ظواهر الكون وتكشف عن قدرة الخالق. وهكذا قرر أن يتعلم
تلك العلوم الطبيعة والرياضية، فتعلم من خلال رحلاته علوم الكيمياء والطب
والفيزياء وتعلم الحساب والعلوم التي تجري عليها التجارب وعلم الفلك
والتنجيم وهو فرع من العلوم الرياضية. وتعلم الفراسة، ومارسها
.
وقد
تعرف إلى عدد من فقهاء مصر من تلاميذ الليث، وكان من عادتهم بعد الحج أن
يزوروا المدينة ليصلوا في الحرم النبوي وليسمعوا لمالك. وقد أملى الشافعي
"الموطأ
" على
بعضهم ونشأت بينه وبينهم صداقة انتفع بها عندما هاجر إلى مصر ومنهم ابن
عبد الحكم. ولقد رأى يوما في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر فتى جميل
الوجه نظيف الثياب حسن الصلاة، فتوسم فيه خيرا، وحدثه فعرف أنه من الكوفة
بالعراق فسأله: "من العالم بها والمتكلم في نص كتاب الله عز وجل، والمفتي
بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "محمد بن الحسن وأبو يوسف
صاحبا أبي حنيفة": فقال الشافعي: "ومتى عزمتم تظعنون؟" فقال الشاب: "غداة
عند انفجار الفجر
".
وذهب
الشافعي إلى شيخه ليستأذنه أن يرحل في طلب العلم، فقال له شيخه مالك:
العلم فائدة يرجع منها إلى عائدة. ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب
العلم رضا بما يطلب؟". فلما كان السحر وانفجر، سار مالك مودعا تلميذه
الشافعي عند محطة القوافل بالبقيع خارج المدينة. وصاح مالك يسأل عمن يؤجر
راحلة إلى الكوفة، فقال له تلميذه الشافعي: "لم تكتري لي راحلة ولا شيء معك
ولا شيء معي؟ "فقال مالك له" لما انصرفت عني البارحة بعد صلاح العشاء
الآخرة، قرع على قارع الباب، فخرجت إليه، فسألني قبول هدية فقبلتها فدفع
إلى صرة فيها مائة مثقال وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي". وكان
الطارق هو أحد تلاميذ الإمام الليث، حمله الليث هذه الهدية لصديقه الإمام
مالك وكان الليث قد تعود أن يصل مالكا بالهدايا الثمينة والمال الكثير
.
خرج
الشافعي من المدينة وهو شاب في الثانية والعشرين، فوصل الكوفة بعد رحلة
شاقة استغرقت أربعة وعشرين يوما، فاستضافه محمد ابن الحسن، وتحاور في
الفقه، وحضر حلقاته وحلقات زميله أبي يوسف. وكتب الشافعي كل ما وجد عند
صاحبي أبي حنيفة من فقه الإمام الأعظم، وعند ما ترك الكوفة كان معه من
الكتب حمل بعير. ثم طاف في بلاد فارس، والتقى بشيوخها وجرت بينه وبينهم
محاورات، ثم سافر إلى ديار ربيعة ومضر، وألم ببعض قبائل البدو، فأصاب ما
عندهم من الفصحى .. وطاف في هذه الرحلة ببغداد وشمال العراق والأناضول
وحران ثم سافر إلى بلاد الشام وزار أمه بمكة
..
وعاد
بعد عامين إلى المدينة وقد تزود بكثير من المعارف وكان يسأل طوال الرحلة
عن أخبار شيخه مالك، فعرف أنه قد اتسعت أرزاقه وأصاب الغنى، فقد أجرى عليه
الخليفة راتبا كبيرا، ووصله بالأموال والهدايا الثمينة .. وقصد الشافعي
الحرم النبوي، بينما هو يتهيأ للجلوس في المسجد في حلقة الإمام مالك، إذ
فاح عطر المسجد فتهامس من في المسجد إنه مالك .. ورأى مالك يدخل المسجد
وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على كرسيه الذي أعد له من قبل وعليه حشية
ومن حوله الدفاتر. وبدأ مالك درسه فطرح مسألة على تلاميذه فلم يجبه أحد.
وظل يطرح مسائل وما من مجيب.! فضاق صدر الشافعي، فنظر إلى رجل بجانبه، وهمس
إليه بالجواب
.. واستمر
مالك يسأل والرجل يجيب بما يهمس إليه الشافعي فسأل مالك من أين لك هذا
العلم؟ فقال الرجل: "إن بجانب شابا يقول لي الجواب". فاستدعى مالك ذلك
الشاب فإذا هو الشافعي .. ولم يكن مالك قد استطاع أن يراه في زحام الحلقة،
فرحب به مالك، وضمه إلى صدره، ونزل عن كرسيه وقال له: "أتمم أنت هذا الباب
".
رضى
مالك عن شرح تلميذه الشافعي، ولما انتهى الدرس، أخذه إلى بيته وأغدق عليه
وحكى الشافعي لأستاذه عن كل ما تعلمه ولقيه في رحلته من طرائف. حكى له عن
تجربته مع علم الفراسة، وكان مالك ينصح تلميذه ألا ينصرف إلى غير علوم
الشريعة، وما يعين على الفقه بها وفهم النصوص واستنباط الأحكام، والاهتمام
باللغة وآدابها، وحفظ أخبار العرب وأيامهم
. وحفظ الشعر الجاهلي، لأن كل أولئك أدوات لفهم نصوص القرآن والأحاديث .. أما الفراسة ففي نفس مالك شيء منها..!
حكى
الشافعي لشيخه مروحا عنه بعض ما صادفه مع علم الفراسة .. فقد مر في رحلته
برجل يقف في فناء بيته، وهو رجل أزرق العينين بارز الجبين، وتأمل الشافعي
ملامحه، وقال لنفسه: "إن علم الفراسة يدل على أن هذا الرجل لئيم خبيث. وكان
الشافعي مجتهدا يلتمس مكانا يستريح فيه. قال الشافعي: "سألت الرجل هل من
منزل؟" قال: "نعم". وأنزلني فما رأيت أكرم منه! وبعث إلى بعشاء طيب، وعلف
لدابتي، وفراشي ولحاف، فقلت
:
"علم
الفراسة دل على غاية دناءة هذا الرجل وأنا لم أشاهد منه إلا خيرا. فهذا
العلم باطل! ولما أصبحت قلت للغلام: أسرج الدابة، فلما أردت الخروج قلت
للرجل: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فاسأل عن منزل محمد ابن إدريس: فقال
الرجل أعبد أبيك أنا؟! أين ثمن الذي تكلفت لك البارحة؟! قلت: وما هو؟ قال:
اشتريت لك بدرهمين طعاما، وأداما بكذا وعطرا بكذا، وعلف دابتك بكذا،
واللحاف بكذا .. قلت: يا غلام أعطه فهل بقى شيء؟ قال كراء المنزل فأني وسعت
عليك وضيقت على نفسي. فضحك مالك .. وأكمل الشافعي: فعظم اعتقادي في علم
الفراسة ولم يجبه مالك بغير الضحكات .. وقلما كان يضحك
!
عاد
الشافعي من هذه الرحلة باحترام كير للإمام أبي حنيفة النعمان فقد قرأه على
صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأعجب بطريقته في الحوار والاستنباط،
وبسعة أفقه، وروى عنه كثيرا من حيله، ودافع عنه، وكانوا في الحجاز يهاجمون
أبا حنيفة ويتهمونه بأنه لا يحسن علم الحديث، فنافح عنه الشافعي ووضعه في
مكانه، وعلمهم أن الناس "في الفقه عيال على أبي حنيفة
" ..
استقر
الشافعي بالمدينة تلميذا للإمام مالك، ثم بدأت تستقيم له طريقة في الجدل،
فهو يلقي بالحجة دون أن يرفع صوته، ويقول لمجادله: "خذ مكاني وأخذ مكانك
" .. ويقول
الرأي المضاد، حتى ينتهي من هذا الأسلوب الجدلي إلى الحقيقة. وأخذ ينتصف
لأهل الرأي من أهل الحديث، وينصف أهل الحديث من أهل الرأي، ويقاوم التعصب
المذهبي
..
عاش
في ظل الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام
مالك سنة 179 هـ والشافعي في نحو التاسعة والعشرين .. وبكى الشافعي أستاذه
الإمام مالك ابن أنس أحر بكاء وعكف على قراءة القرآن ملتمسا العزاء .. وشعر
أنه أصبح غريبا في المدينة" لم تطلب له الحياة بعد أن توفى شيخه .. وبدأ
يبحث عن مكان يعمل فيه عملا يعيش منه .. وعاد إلى أمه بمكة، مودعا المدينة
من خلال الدمع
.
وكان
والي اليمن قد أقبل إلى الحجاز في ذلك الوقت، فتوسط بعض أقرباء الشافعي من
القرشيين عند والي اليمن، فصحبه معه إلى اليمن ووكل إليه عملا. لم يكن عند
أم الشافعي ما تساعد به ابنها ليتزود في سفره هذا، وليقيم في اليمن حتى
يقبض راتبه، فرهنت دارا كانت لها بمكة، وسافرت معه. ولقد غضب منه أحد شيوخه
بمكة وعنفه لأنه يترك الفقه من أجل الوظيفة بقوله: "تجالسوننا وتسمعون
منا، فإذا ظهر لأحدكم شيء دخل فيه؟
".
وتولى
الشافعي عملا مهما في نجران باليمن، وهناك عاود دراسة علوم الفراسة التي
كانت مزدهرة باليمن، حتى تفوق فيها. وجلس إلى بعض شيوخ الشيعة باليمن فتلقى
منهم، ولزم يحيى ابن حسان تلميذ الليث بن سعد المصري وصاحبه، فأخذ عنه كل
ما انتهى إليه من فقه الليث. وقام الشافعي بعمله في نجران خير قيام، وأحبه
الناس لعدله، ولتمسكه بالشريعة، وإغلاق باب المجاملة والملق
.
ثم أنه وجد حاكم نجران يظلم الناس .. فقام
الحاكم ووقف في المسجد يحض الناس على مقاومته، وأخذ يضرب لهم الأمثال لما
يجب أن تكون عليه سيرة الحاكم بالإمام علي بن أبي طالب وسيرته في الخلافة،
فأثار عليه أعداء كثيرين من الذين رفض مجاملتهم. ووشى حاكم نجران بالشافعي،
ودس عليه أنه أسس حزبا علويا يعد للثورة على الخليفة، ليولي أحد أحفاد
الإمام على، بدلا من هارون الرشيد وأنه يؤيد الحفيد في الثورة على الرشيد
.
وكان
العباسيون غلاظا على العلويين، يسفكون دماءهم بالظن. فقد كانوا يعرفون أن
كثيرين يرون العلويين أحق منهم ومن الأمويين بالخلافة. فزع الرشيد من قراءة
كتاب والي نجران وخاصة من قوله عن الشافعي: "لا أمر لي معه ولا نهي، فهو
يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه
".
وفي
الحق أن الشافعي ما كان يخفي حبه لعلي وللطالبيين، فقد قيل له يوما:
"خالفت علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما قلت". فقال لمناظره "اثبت لي هذا
عن علي بن أبي طالب حتى أضع خدي في التراب وأقول قد أخطأت وأرجع عن قولي
إلى قوله" ووجد في اليمن كثيرا من الطالبيين، وحضر مجالس العلم معهم ولكنه
كان يستمع ولا يتكلم فإذا سئل في ذلك قال: "لا أتكلم في مجلس يحضره أحدهم
وهم أحق بالكلام مني ولهم الرياسة والفضل
".
وهكذا
شاع عنه حبه لبني علي، والطالبيين جميعا. قيل له إنك لمتشيع تشايع علي بن
أبي طالب وتشايع بنيه من بعده ومنهم الثائر العلوي على الرشيد .. فقال: يا
قوم
ألم
يقل النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
والده وولده والناس أجمعين )؟ رواه البخاري ( 15 ) ومسلم ( 44 )
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أوليائي من عترتي المتقون"
فإذا
كان واجبا علي أن أحب قرابتي وذوي ورحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من
الدين أن أحب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا من المتقين؟
"وكتب والي نجران مرة أخرى إلى هارون الرشيد أن الشافعي يؤلب عليه الأمة
وأنه يقود تسعة من الثوار، يوالون الثائر العلوي الذي يطالب بالخلافة
.
فأرسل
الرشيد إلى والي نجران أن يرسل إليه الثوار مهانين في الأصفاد. كانوا تسعة
على رأسهم الشافعي ووضع الحديد في أرجلهم وأعناقهم تنفيذا لأمر الرشيد
وسيقوا إليه مهانين .. كان الشافعي في الرابعة والثلاثين، فارسا، بطلا في
رياضة الرمي، جلد قوي البنيان، ولكنه جهد من الرحلة والإهانة. وأدخلوهم على
الرشيد وإلى جواره محمد بن الحسن قاضي الدولة، الذي تلقى عنه الشافعي من
قبل في الكوفة
.
وكان الشافعي يدعو بهمهمة يسمعها الحاضرون: "الله
يا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير". أنكر التسعة تهمة الثورة على
الرشيد، ولكنه أمر بقطع رءوسهم جميعا وسأله التاسع أن يمهله حتى يكتب لأمة
فليس لها غيره، وأقسم أنه برئ من الإعداد للثورة على الرشيد، ولكن الرشيد
أمر بقطع رأسه. كل هذا والشافعي في الأصفاد: الأغلال في عنقه والحديد في
قدميه، ورأسه بالرغم من كل ذلك شامخ
.
ويا لله كان مجهدا.
وهاهو
ذا يرى الموت رأى العين، ولكنه على الرغم من كل شيء ثابت الجنان، عميق
الإيمان لا يملك إلا أن يدعو بالنجاة .. وعندما انتهى الرشيد من قتل الرجل
التاسع، قال الشافعي: "السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته .. " ولم يقل
ورحمة الله. فقال الرشيد: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته بدأت بسنة لم
تؤمن بإقامتها، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم في
مجلسي بغير أمري
".
قال الشافعي: "إن الله تعالى قال في كتابه العزيز:
{ وَعَدَ
ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
}(النور،الآية:55)
وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنك في أرضه وأمنني بعد خوفي حيث رددت على
السلام بقولك" وعليك رحمة الله "فقد شملتني رحمة الله بفضلك يا أمير
المؤمنين
".
فقال
الرشيد: "وما عذرك من بعد أن ظهر أن صاحبك ـ يعني الثائر العلوي طغى علينا
وبغى، واتبعه الأرذلون وكنت أنت الرئيس عليهم؟ فقال الشافعي: "أما وقد
استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل والإنصاف، ولكن الكلام مع ثقل
الحديد صعب فإن جدت علي بفكه أفصحت عن نفسي. وإن كانت الأخرى فيدك العليا
ويدي السفلي والله غني حميد
".
فأمر الرشيد بفك الحديد عنه، وأجلسه.
وقال الشافعي: حاشا لله أن أكون ذلك الرجل، قال تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ }..(الحجرات،الآية:6) لقد
أفك المبلغ فيما بلغك وإن لي حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة ..
وأنت أحق من أخذ بكتاب الله. أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذائد عن دينه المحامي عن ملته وأنا يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي
وإنما أدخلت في القوم بغيا علي أنا رجل من بني المطلب ابن عبد مناف .. أنا
محمد بن إدريس بن عثمان بن شافع بن السائب
..
فقاطعه الرشيد: "أنت محمد بن إدريس؟"
فقال
الشافعي: "ولي مع ذلك حظ مع العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك. وكان محمد بن
الحسن الذي استضاف الشافعي في الكوفة من قبل، قد أصبح قاضي الدولة، يجلس
بجوار الرشيد فقال له الرشيد: "ما ذكرت لي محمد بن الحسن" ثم التفت إلى
القاضي وسأله: يا محمد .. ما يقول هذا أهو كما يقول؟. فقال بن الحسن إن له
من العلم شأنا كبيرا. وليس الذي رفع عليه من شأنه
.
قال الرشيد: فخذه حتى انظر في أمره.
وهكذا نجا الشافعي برأسه .. وخرج إلى بيت محمد بن الحسن ضيفا عليه .. ومازال
محمد بن الحسن بالخليفة، حتى رضى عن الشافعي، واستدعاه ليمتحن علمه. وعقد
له مجلسا من أهل العلم والفقه والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والطب
.
قال الرشيد: "إنا نراعي حق قرابتك وعلمك فكيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟".
فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين فأن الله قد أنزل كتبا كثيرة؟
فقال الرشيد: "أحسنت. لكن إنما أسألك عن كتاب الله تعالى المنزل على ابن عمي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الشافعي: "إن علوم القرآن الكريم كثيرة فهل تسألني عن محكمه أو متشابهه أو عن تقديمه أو تأخيره أو عن ناسخه أو منسوخه؟".
فأعجب
الرشيد وأهل المجلس بجواب الشافعي. ثم أخذ الرشيد يسأله عن سائر العلوم
الطبيعة والرياضية من طب وكيمياء وفلك وتنجيم وفراسة .. فصفق الحاضرون
إعجابا بحسن إجاباته، وأجازه الرشيد بخمسين ألف دينار، فقبلها الشافعي
شاكرا، وخرج إلى دار مضيفه، فلحق به أحد كبار رجال الدولة فقدم إليه صرة
كبيرة بها دنانير ذهبية، فردها الشافعي قائلا: "لا أقبل عطاء ممن هو دوني
إنما أقبل العطاء من الخليفة وحده". عاد الشافعي إلى دار مضيفه محمد بن
الحسن، يتأمل كل الذي دار بينه وبين الخليفة
.
تعلم
الشافعي من المحنة ألا يزج بنفسه في صراع سياسي. وحاول محمد بن الحسن أن
يجذبه ليكون في صف بني العباس، بدلا من بني علي، ولكنه أثر العافية وأقسم
ألا يخوض غمرات الصراع السياسي، وألا يقبل منصبا في الدولة، فلن يهب نفسه
لشيء بعد أعظم من العلم والفقه .. واعترف أنه أخطأ حين قبل المنصب في
اليمن، فزج بنفسه فيما ليس من شأنه. وعكف على دراسة الطب والعلوم الطبيعة
والرياضية يستكمل ما فاته منها، وأهتم بالرياضة البدنية، وعاد يتدرب على
الرمي وركوب الخيل، وقسم وقته بين هذا كله وبين دراساته الفقهية ودراسة ما
ترجم من ثقافات المصريين القدماء القبط واليونان والفرس والهند
.
واتخذ
لنفسه دارا، وبدأ يدرس فقه العراق على يد محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي
حنيفة. لقد درس هذا الفقه مرة عندما كان في نحو العشرين، وهاهو ذا اليوم في
نحو الخامسة والثلاثين وقد أكسبته السنون خبرة، وأنضجت الدراسة والمعاناة
والتأملات عقله وقلبه، يعيد دراسة فقه أبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق.
ويبذل في كل أولئك من الجهد ما جعل الطبيب يحذره من السل. صاحب الشافعي
محمدا يتلقى منه فقه أهل الرأي، ولم يجد في ذلك غضاضة، فقد كان دائما مشوقا
إلى المعرفة، وإلى المزيد من العلم ـ وكان يقول: "من حسب أنه علم فقد ضل
وجهل
".
ولزم
الشافعي حلقة محمد بن الحسن في بغداد، وشاهد في الحلقة مخالفة مالك،
وهجوما على آرائه، وكان يستحي أن يواجه محمدا في الحلقة بخلافه معه حول
الإمام مالك، فما يكاد محمد ينصرف عن حلقته، حتى يسرع الشافعي في مناظرة
تلاميذ محمد، مدافعا عن فقه الإمام مالك، وعن أهل السنة، حتى لقد أطلقوا
عليه في العراق اسم "ناصر السنة". وعرف محمد أن الشافعي يناظر في غيابه،
فأصر محمد على أن يناظره الشافعي. وأبى الشافعي خجلا من محمد، ولكن محمد
ألح عليه فتناظرا في رأي الإمام مالك في الاكتفاء بشاهد واحد مع اليمين.
وظهر الشافعي على محمد في المناظرة
.
ثم
رجع الشافعي عن هذا الرأي عندما رحل إلى مصر، وسمع من تلاميذ الإمام الليث
حجة شيخهم في التمسك بشاهدين .. فأخذ الشافعي برأي الليث .. أعجب محمد
بالشافعي، وولع بمناظراته، وأعجب الشافعي بعلم محمد وبخلقه العلمي، فما كان
يغضب إذا غلبه مناظر، وما أسرع ما كان يعترف لمناظره بالصواب إن اقتنع
بحجته
.
قال
عنه الشافعي: "ما رأيت أحدا سئل في مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في
وجهه إلا محمد بن الحسن". وقد بلغ من حب محمد للشافعي، أنه كان على موعد مع
الخليفة، إذ بالشافعي أمام دار محمد، فنزل محمد عن دابته، وقال لغلامه
اذهب فاعتذر. وأخذ بيد الشافعي، فقال الشافعي
: "لنا وقت غير هذا" فقال محمد: "لا". ودخل به داره يتناظران ويتدارسان.
وعلى
الرغم من أن محمدا من أهل الرأي من اتباع أبي حنيفة والشافعي من اتباع
مالك شيخ أهل السنة ـ وبين أبي حنيفة ومالك خلاف كبير في الأصول والفروع ـ
على الرغم من ذلك فإن محمدا كان يمدح لتلاميذه علم الشافعي وسألوه لماذا
يؤثر الشافعي عليهم على الرغم من خلافهما فقال: لتأنيه وتثبته في السؤال
والاستماع. أثرت الحياة الفكرية في بغداد ثراء عظيما بمحاورات الشافعي
ومحمد بن الحسن، وكانت مثالا لأدب المناظرة، وبراعة المتناظرين. لكم كان
الشافعي عفيف اللسان فهو لا يسيء إلى أحد ولا يحب أن يذكر أحد بسوء أمامه.
قال له أحد أصحابه فلان كذاب. فقال: لا تقل (كذاب) بل حديثه غير صحيح
.
وكان
يعظ أصحابه: "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق
به ـ فإن المستمع شريك القائل. والشافعي على الرغم من خلافه مع أبي حنيفة
إمام الرأي كان إذا سئل عن مكانته بين فقهاء العراق ـ ومنهم أهل الحديث ـ
قال: "سيدهم
" ولعل أروح محاوراته مع محمد بن الحسن، هي تلك التي دارت حول الغصب.
قال
محمد للشافعي: "بلغنا أنك تخالفنا في مسائل الغصب" "فقال الشافعي" أصلحك
الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة فإني أجلك عن المناظرة. ولكن محمدا
صمم على أن يناظره فسأله: "ما تقول في رجل غصب ساحة وبني عليها بناء وأنفق
عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟

قال الشافعي: "أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضى وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.
قال
محمد: فما تقول في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينته ووصلت السفينة
إلى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين. أكنت تنزع اللوح من
السفينة؟

قال الشافعي: "لا"
قال محمد: "الله اكبر تركت قولك! ثم ما تقول في رجل غصب خيطا فرجحوا بطنه فخاطوا بذلك الخيط تلك الجراحة،
جاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟
قال الشافعي: "لا"
فقال محمد: "الله اكبر. تركت قولك"
فقال
الشافعي: أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه (لوح صاحب السفينة) وأراد أن ينزع
ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟

قال محمد: "يحرم عليه"
فسأل الشافعي: "أرأيت لو جاء مالك الساحة وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟".
فأجاب محمد: "بل يباح"
قال الشافعي: "رحمك الله فكيف تقيس مباحا على محرم؟".
قال محمد: فكيف يصنع بصاحب السفينة؟
قال الشافعي آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له أنزع اللوح وادفعه لصاحبه.
قال محمد: عن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، حديث حسن ، رواه ابن ماجة و الدارقطني وغيرهما .
قال
الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه ثم سأل الشافعي: "ما تقول في رجل من الأشراف
غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة". ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادات
أشراف خطباء. فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم
هؤلاء الأولاد مملوكة له ماذا تعمل؟

قال محمد: أحكم بأنه أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل.
قال الشافعي أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا أن تقلع البناء وترد الساحة لمالكها أو أن تحكم برق هؤلاء الأولاد؟
فسكت محمد بن الحسن، أما تلاميذه في الحلقة فمالوا إلى رأى الشافعي.
أقام
الشافعي في بغداد أعواما قلائل. استوعب فيها كل معطياتها من العلوم
الطبيعة والدينية والرياضية والفقهية، وناظر فقهاءها، وقرأ عليهم كتاب
الإمام مالك "الموطأ"، ودافع عن أهل الحديث، وأفاد من أهل الرأي
. وشعر
آخر الأمر بالشوق إلى مكة، وبأنه قد جمع من المعارف ما يؤهله لأن يجلس في
المسجد الحرام مجلس المفتي والأستاذ وشيخ الحلقة. وكانت مناظراته قد أعجبت
الرشيد، فعرض عليه أن يوليه القضاء في أي مكان يريد، أو يجعله واليا على أي
قطر يختار
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:36 pm

ولكن الشافعي استأذن الرشيد في أن يتفرغ للعلم، وأن يعود إلى مكة ليعيش بين أهله من قريش وينشر ما تعلمه بين الناس.
وأذن له الرشيد.
وعاد
الشافعي إلى أم القرى. فاتخذ له مجلسا للفتوى والتدريس في فناء بئر زمزم
بجوار مقام إبراهيم خليل الله .. وهو المجلس الذي اختاره من قبل في عصر
الصحابة، عبد الله بن عباس مفسر القرآن الكريم، وأحد الذين حفظوا فقه
الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، وكان نائبه على الحجاز عندما كان الإمام
علي كرم الله وجهه أميرا للمؤمنين، يحكم الدولة الإسلامية الغنية من الكوفة
في بيت هو من أدنى بيوت المسلمين
.
عاد
الشافعي من بغداد، ولا يزال في أذنيه طنين من ضجيج المناظرات .. وقد أتاح
له مقامه الطويل هناك أن يقترب من أهل الرأي، وأن يقرب أهل السنة من الرأي
.. وأن يقنع بعض أهل الرأي بما عند أصحاب السنة .. ومازالت صور من محاوراته
مع محمد بن الحسن تلح عليه .. في حواره مع محمد بن الحسن شيخ أهل الرأي في
العراق بعد الإمام أبي حنيفة كان الشافعي يحاول أن يقرب المذهبين، وكان
مفتونا بذلك الطريق الوسط الذي اختطه الإمام الليث بن سعد المصري بين أصحاب
الرأي وأهل السنة
.
إنه
لا يستطيع اليوم أن ينحاز إلى أي الحزبين .. فكيف استطاع الإمام الليث أن
يجد هذا المنهج الوسط؟ كانت آراء الليث قد انتهت إلى الشافعي منذ كان في
اليمن، ولكنه كان في حاجة إلى المزيد، ولابد من السفر إلى مصر ليتلقى العلم
من إمامها الليث بن سعد. ولكن أهله في مكة أم القرى يستبقونه. وإذن فليقم
في مكة أم القرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وحتى يؤذن له بالسفر إلى
مصر. لقد أصبح الآن يملك من عطايا هارون الرشيد ما يسمح له بالتفرغ الكامل
للعلم
.
وأنفق
نصف ما حمله من العراق على فقراء مكة، تنفيذا لوصية أمه: أن يتصدق على
الفقراء بنصف ما معه كلما قدم إلى أم القرى. وهاهو ذا الآن إمام يجلس
للتدريس والإفتاء. ثابتا، راسخا، مطمئن النفس. وجعل يجلس في المسجد الحرام
ساعات قليلة بعد الفجر، أما بقية النهار والليل فقد خصصه للتأمل، ولاستنباط
منهج في الفقه. لكم هو نادم لأنه أضاع وقته، إذ قبل وظيفة في اليمن فدخل
فيما ليس من شأنه على حساب ما كان ينبغي أن يحصل من معرفة، ويشيع من علم،
وعلى حساب طلب الحقيقة والحكمة .. على أن الوقت لم يفت بعد، وعليه أن يعوض
ما فات .. إنه لعمل النهار والليل إذن
...
إنه
ليفسر القرآن ويستنبط دلالات آياته، ويدرس الناسخ والمنسوخ، ويدرس السنة
ومكانها من القرآن، ويتعرف على صحيح الأحاديث من باطلها، في عصر كثر فيه
وضع الأحاديث إما مشايعة للفرق السياسية المتناحرة، وإما كيد للإسلام، وإما
غفلة من وضاعي الحديث أو ناقليه حتى لقد صح عنده أن بعض الذين سمعوا
الأحاديث كانوا يسمعون بعضها فيكتفون به، وقد يكون فيما يسمعوه منها ما
ينسخ ما نقلوه
.
ثم أخذ يفكر في كيفية استخراج الأحكام إن لم يكن هناك نص في القرآن أو السنة وكيف يجتهد المجتهد وما ضوابط الرأي. ووضع كتابا أسماه "الرسالة"
فيه القواعد الكلية العامة لاستنباط الأحكام وأسس هذا الاستنباط، وأعاد
النظر فيه فنقحه واختصر منه ولكنه لم يطمئن إلى نشره، فرأى أن يتركه بعض
الوقت عسى أن يعيد النظر فيه، بعد طرح ما فيه من أفكار على أهل حلقته،
ومناظرة شيوخ مكة وعلماء الأمصار الذين يفدون إلى البيت الحرام. وطال مقامه
بأم القرى هذه المرة، وطابت له فيها الحياة، وجذب إليه الكثيرين من رواد
الحلقات الأخرى في المسجد الحرام
.
وجلس
إليه بن حنبل فأعجب به، فذهب احمد إلى أصحابه الذين يلتمسون العلم في
حلقات أخرى بالمسجد الحرام وأغراهم بالذهاب إلى حلقة الشافعي. ويروي أحد
أصحاب ابن حنبل: "قمت فأتى بي احمد بن حنبل إلى فناء زمزم، فإذا هناك رجل
عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني احمد بن
حنبل إلى جانبه". وقال احمد ابن حنبل لصاحبه: "اقتبس من هذا الرجل فإنه ما
رأت عيناي مثله، فإن فاتنا فلن نعوضه أبدا
".
ثم
عاد الشافعي من جديد إلى كتابه "الرسالة"، يتأمله ويهذبه حتى استقام له
علم أصول الفقه، فرأى أن يذهب إلى العراق يعرض على شيوخه هذا العلم الجديد
ويناظرهم فيه. كان قد جاوز الخامسة والأربعين، وقد أصبحت له بمكة مدرسة
واتباع وقد أطلقوا عليه في مكة "المفتي المكي"، و"العالم المكي". وجلس في
حلقة بجامع بغداد، يشرح للناس ما وصل إليه في "الرسالة" من أصول. وهناك بهر
بعلمه الفقهاء والتلاميذ
..
ذلك
أنه قد انتهى إلى أن القرآن الكريم قد جمع الأحكام وجاءت السنة شرحا
وتبيانا لما في القرآن .. فعلى المجتهد أن يبحث عن الحكم في القرآن أو
السنة .. فإن لم يجد ففي إجماع الصحابة .. إجماع الصحابة في كل الأقطار لا
في المدينة المنورة وحدها، بحيث لا يصح إجماع إلا إذا اتفق عليه كل
الصحابة. فإن لم يجد المجتهد حكما في كل ذلك، فعليه أن يبحث في علة الحكم
الواردة بالنص، ويلحق بهذا الحكم ما يتشابه معه في العلة من القضايا
الجديدة، وهذا هو القياس، وبهذا أرض الشافعي أهل الرأي وأهل الحديث جميعا
.
احتفلت
به بغداد كما بم تحتفل بفقيه زائر من قبل، وفرح به تلميذه احمد ابن حنبل
الذي كان ألف أن يختلف إلى حلقته ويلزمه كلما زار مكة حاجا أو معتمرا،
قاصدا إليها على قدميه .. وتمنى التلميذ على أستاذه أن يقيم في بغداد سنوات
فينشر علمه ويؤسس فيها مدرسة فقهية جديدة. ولكن الحياة لم تطب للشافعي في
بغداد .. لكم تغيرت بغداد خلال هذه السنوات الطوال التي أقامها الشافعي في
مكة
..!
لم
تعد بعد بغداد التي أحبها .. ومات خير أصدقائه محمد بن الحسن، ولحق به
آخرون، وسجن الباقون أو تركوا العراق، وذهب الرشيد، فاضطربت الأمور بعد
موته .. اختلف أولاده .. وحارب الأخ أخاه على الخلافة .. فقد ولى الأمين
ولم يكد يستقر على العرش حتى وثب عليه أخوه المأمون فقتله، وتولى مكانه.
ومازالت أصداء النواح على البرامكة تملأ آفاق بغداد، منذ نكبهم الرشيد. وهم
أقرب الناس إليه، وأعمل فيهم السيف وآلات التعذيب حتى لا يرى فوق ظهرها
برمكيا
.
ثم
إن الرشيد بطش بكل معارضيه، ومازالوا تحت الأصفاد في كهف سحيق .. وما انفك
من بين رجال العلم من يكيد لمخالفيه في الرأي ويحاول أن يوقع بهم عند
المأمون .. الخليفة الذهبي .. وشيء جديد يشغل مجالس الفقه عما ينبغي أن
تشغل به مما يفيد الناس في دنياهم .. فالأفكار التي تطرح على ندوات العلم
والفقه هي صفات الله وعلاقتها بذات الله تعالى .. والجبر والاختيار
.
ثم
إن العناية بالقرآن الكريم قد عدلت عن تدبر آياته وفهم الأحكام منها،
وتحرى مقاصدها بما يضبط معاملات الناس وسيرتهم في دينهم ودنياهم، وانصرف
العلماء والفقهاء إلا قليلا إلى مناقشة صفة القرآن الكريم: أقدم هو أم
مخلوق؟ جدل نهى الصحابة عنه، وانصراف عن مصالح العباد، ومباحث ما كانت تشغل
حلقات العلم والفقه من قبل، بل كانت تعرض لتختفي، فهاهي ذي الآن تسيطر على
العقول والقلوب.! وهكذا كله غير ما ينبغي أن يشغل المسلمين!! إن هذا لشيء
عجيب
..
وعلى
الرغم من الازدهار الحضاري الفائق، فقد أحس الشافعي أن الجسارة الفكرية في
مواجهة مقتضيات الحياة باستنباط الأحكام قد بدأت تنحسر، ليزحف مد جسارة
زائفة، هي الجرأة على الشريعة نفسها، وشغل الناس بما لا ينفعهم في مواجهة
حياة كل يوم. يواكب هذا كله دعوة ملحة إلى الزاهد فيما أحله الله لعباده،
وحض الناس على القناعة بالفقر، ليكنز الكانزون، ويستمتعوا دون الرعية حتى
بما حرم الله
..!
لم تعد بغداد هي المدينة التي أحبها الشافعي من قبل، وأفاد من مناظراته لعلمائها، وأتقن فيها علوم الطب والفلك، والفقه.
وإذن ما بقاؤه في بغداد!؟
وإلى من يأنس فيها؟!
ومع من يقضي وقته!!
لقد
ألف حين زارها في المرة الماضية أن ينفق وقته مع صفيه وأستاذه محمد ابن
الحسن .. أين رفاق ذلك الزمان من العلماء والفقهاء؟ لا أحد بعد! والإنسان
يحب من المدائن تلك التي يجد فيها الراحة والألفة، وحسن الصحبة، وجمال
الرفقة .. ولكنه الآن في بغداد لا يجد من يأنس إليه غير احمد بن حنبل. إنه
لأحب تلاميذه إليه حقا، وما يقيم الشافعي عليه في بغداد الآن إلا من أجل
احمد بن حنبل
...
ومر
عليه شهران في بغداد، واستدعاه المأمون، فعرض عليه أن يوليه منصب قاضي
القضاة، وهو في المنصب الذي كان يشغله محمد بن الحسن أيام الرشيد، ولكن
الشافعي كان قد ألي على نفسه ألا يتولى منصبا، وأن يخصص كل وقته للفقه، فإن
وجد متسعا من الوقت فليخصصه للشعر، وما أقل ما كان يجد الوقت للممارسة هذا
الفن الحبيب إليه! .. وما اكثر ما اكن يخشى أن يعرف عنه أنه قد أدركته
حرفة الشعر فينبذه الفقهاء المتزمتون؟
.
وتلقى
دعوة إلى زيارة مصر من واليها الجديد، ومن أحد تلاميذه الذين أملى عليهم
"الموطأ" في مكة من قبل، وألف استقباله في كل موسم حج، وقد أصبح تلميذه هذا
الآن فقيها ذا شأن في مصر وتاجرا اسع الغنى وهو ابن عبد الحكم. لقد طوف
الشافعي في الآفاق وعرف الدنيا وعرف الناس، زار اليمن والعراق والشام وفارس
والأناضول، إلا البلد الذي سمع فيه من علم وحكمة، وتمنى أن يزوره
.. زار كل عواصم الفقه .. إلا مصر..!
وتاقت
نفسه إلى زيارة مصر .. إنه يعرف أن أول كتاب ترجم إلى اللغة العربية هو
كتاب مصري في الطب، ترجمه في صدر الإسلام علام قطبي من أهل مصر .. وقد تعلم
الشافعي من هذا الكتاب .. وهو يعرف أن حكماء اليونان الذين بهرته أفكارهم
وكل آثارهم، قد تعلموا الحكمة والطب والفلسفة والرياضيات في مصر القديمة ..
وهو يعرف أن مصر من بين كل البلاد المفتوحة هي البلد الوحيد الذي عرف
عقيدة التوحيد قبل الديانات السماوية .. من يدري .. ربما كان بها رسل
وأنبياء ممن لم يتحدث عنهم القرآن، وقد أخبر الله تعالى رسوله صلى الله
عليه وسلم في القرآن بأنه أرسل من الرسل من لم ينزل قصصهم في القرآن، ولم
ينبئه بأمرهم فيما أنزل عليه من أنباء الغيب
!.
وهو
يعرف أن في مصر مزجا من الحضارات، وأن الحضارة المصرية القديمة قد شكلت
الإنسان المصري فعلمته حب العدل والحرية والحقيقة والحكمة، ثم جاءها
الإسلام فأنبت فيها نباتا طيبا، وصاغ لها حياة خصبة من الأخوة .. وأنه
ليتوق إلى التعرف على ما تركه الصحابة الأوائل في مصر، منذ جاءوها في جيش
الفتح، وهو بعد يريد أن يعايش تلك المدرسة المصرية العظيمة في الفقه
الإسلامي، الغنية باجتهادات الإمام الليث، رائد الشافعي في الطريق الوسط
بين أصحاب الرأي وأهل الحديث
.
وأصبح
الشافعي ذات يوم فأعلن أنه راحل من غده إلى مصر، فألح عليه تلميذه احمد بن
حنبل أن يبقى معهم في بغداد. ولكن الشافعي كان قد عزم فما عليه إلا أن
يتوكل
. وزار
قبر الإمام أبي حنيفة، وصلى ركعتين .. ولاحظ مرافقوه أنه عدل عن قواعده في
حركات الصلاة إلى قواعد أبي حنيفة، فلما سألوه في ذلك قال: "أدبا مع
الإمام أبي حنيفة أن أخالفه في حضرته". واجتمع خلق كثير في وداع الشافعي.
احمد بن حنبل ما برح يحاول إقناعه بالبقاء في بغداد، فيمسك الشافعي بيد ابن
حنبل ويترنم
:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر
ومن دونها أرض المهامه والقف
والله ما أدري الفـوز والغـنـى
أسـاق إليـها أم أسـاق إلى القبر
وبكى
احمد بن حنبل. وبكى الشافعي والحاضرون، ودعا الشافعي احمد ابن حنبل أن
يزوره في مصر، فوعده احمد بالزيارة إن شاء له الله. وصل الشافعي إلى مصر،
واستقبله على أبواب الفسطاط عدد من الفقهاء ورجال الدولة كلهم يستضيفه.
ويلح عليه أن يقبل الضيافة ودعاه الوالي إلى منزل كبير خصصه له، ولكن
الشافعي أثر الإقامة عند أقارب أمه، تشبها بالرسول عليه الصلاة والسلام حين
هاجر يثرب، فأقام عند أخواله
.
وكانت
جماعات القبائل العربية مازالت تفد إلى مصر منذ الفتح الإسلامي، فتستوطن
المنازل التي تألفها، إما في الفسطاط أو في الأقاليم. وكان أول ما صنعه
الشافعي حين استقر به المقام أن ذهب إلى قبر الإمام الليث فزاره. وقال وهو
يقف على قبره: "لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم، العلم
والعمل والزهد والكرم
".
وبعد
أن فرغ من زيارة الإمام الليث سأل عن دار السيدة نفسية، وكانت تقيم بمصر.
منذ سجن أبوها، وكان واليا على المدينة وهي حفيدة الحسن بن علي وزوجها هو
إسحق المؤتمن بن الإمام الصادق جعفر بن محمد حفيد الحسين بن علي رضي الله
عنهم. واستأذنوا للإمام الشافعي في زيارتها فأذنت له، ورحبت به، وأعجبها
عقله وورعه، وسمع منها ما لم يكن قد وصل إليه من أحاديث شريفة
.
وألف
منذ تلك الزيارة أن يجلس في حلقتها فيسمع، ويقرأ عليها اجتهاداته .. وكان
إذا أقعده المرض عن زياراتها أرسل يسألها الدعاء فتدعو له بالشفاء .. وبعد
أن فرغ من أول زيارة للسيدة نفسية سأل مرافقيه أن يصحبوه إلى "تاج الجوامع
".
ـ
فهكذا كان يسمي جامع عمرو إذ ذاك ـ فوجد الجامع يعج بحلقات الدرس، وشاهد
عجبا..! لم تكن كلها حلقات قرآن وحديث وفقه .. بل كانت فيها حلقات للقصص
واللغة، والشعر، وسائر فنون الفكر والمعرفة .. ما أروع انطلاق الحياة
الفكرية هنا..! لقد كان من قبل يقول في حسرة
:
ولو لا الشـعر بالعلـماء يـزري
لكنـت الآن أشـعر مـن لبـيد!
وقوله:
أنا إن عشت لست أعدم قوتا
وإذا مت لسـت أعـدم قبرا
همـتي همة الملوك ونفسي
نفـس حر ترى المذلة كفرا
ولكن
الإمام الشافعي على الرغم من السماحة التي بهرته في مصر، كان يعاني من ضيق
أفق المتعصبين وعدوانهم على الناس .. وكان هذا النفر ينتسب إلى المذهب
المالكي ويسيئون بسلوكهم إلى سمعة أستاذ وشيخه العزيز عليه
.. فنصب نفسه مفندا لدعاواهم.
مر
في الطريق بفقيه من هؤلاء يمسك برجل ويتهمه في دينه، والأخير يهزأ بالفقيه
.. وأوشكا أن يتضاربا، فخلصهما الشافعي وقال: ما خطبكما؟ فقال الفقيه:
"رأيته يبول واقفا". قال الشافعي: "وما في ذلك؟"، قال: "يرد الريح من رشاشه
على بدنه فيصلي به" فسأله الشافعي: "فهل رأيته أصابه الرشاش فصلى قبل أن
يغسل ما أصابه؟"، فقال "لا" .. "ولكني أراه سيفعل". فضحك الشافعي وحاول أن
ينصحه .. فغضب الفقيه، وعربد على الشافعي وسبه .. وتأمله الشافعي، فإذا هو
"فتيان
" الأحمق الذي سأل الشافعي حين قدم عما إذا كان ظهور العورة ينقض الوضوء، ثم شتمه بعد ذلك في جامع عمرو شتما منكرا.
وإن للشافعي مع "فتيان" هذا لشأنا..!
وكان "فتيان"
هذا يقود جماعة من المتعصبين، يرهب بهم اتباع الإمام الليث لأنه خالف
الإمام مالك بن أنس، ويرهب بهم من يلتفون حول الإمام الشافعي منذ اكتشف
الشافعي أن الفقه المصري يختلف مع الفقه المالكي في كثير من الأصول
والفروع، فأخذ الشافعي برأي إمام الفقه المصري .. الليث ابن سعد
.
وشرع
المتعصبون لمالك يتهمون الشافعي بأنه لا يعرف الحديث، فرد عليهم أنصار
الشافعي بشهادة احمد بن حنبل وهو من أكثر الفقهاء انتصارا للحديث" ما من
أحد من أصحب الحديث حمل محبرة إلا للشافعي عليه منة. ذلك أن أصحاب الرأي
كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى قدم الشافعي إلى العراق، وأقام الحجة عليهم
!".
وعلى
الرغم مما لقي الشافعي من المتعصبين، فقد ظل يتابع حلقات الحوار والدروس،
والناس يفدون إليه من مختلف الأقطار والأمصار، مفتونين بطريقته في الإلقاء
والجدل، وببلاغته حين يخطب الجمعة حتى أسموه "خطيب الفقهاء". ومرت به
الشهور في مصر، وهو ينتظر مقدم صديقه وتلميذه احمد ابن حنبل .. وكثيرا ما
كان يشرد ويقول
: "وعدني صاحبي احمد بالقدوم إلى مصر" .. ويتمنى وينتظر ..
على أن الواقع المصري الجديد، وما أطلع عليه الشافعي في مصر، من آراء وطرائق للاجتهاد، جعله يعيد النظر في كل ما كتبه من قبل.
لقد غير كثيرا من آرائه.
ومن
أبرز الآراء التي ظهر فيها التأثير المباشر للبيئة المصرية رأيه في الماء
.. فقد كان يرى كالإمام مالك أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع
الماء .. ولكنه في أرض النيل، تابع رأي الإمام الليث. في أن صاحب الأرض
التي بها بئر ليس له إلا حق السبق في الاستعمال
.. أي الامتياز فقط، وللغير بعد ذلك حق الشرب وسقي الأرض بلا مقابل. وشرع يراجع كتاب "الرسالة" مرة ثالثة ويصقل ما تضمنه من أصول الفقه .. بل أخذ يراجع كل ما كتبه من قبل فأحرق بعضه.
ونظر
في الآراء التي تابع فيها شيخه (مالك)، وعكف على فقه مالك كله يمحصه على
ضوء ما تعلمه في مصر من فقه الليث .. فأعلن في خاصته أن الإمام مالك بن أنس
يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل .. ونشر كتابا عن خلافه
مع مالك في الأصول والفروع .. وقال إنه مع الليث في خلافه مع مالك! ثم عكف
على فقه أبي حنيفة يمحصه وانتهى من دراسته إلى نقد الإمامين مالك وأبي
حنيفة. "فما لك أفرط في رعاية المصالح المرسلة وأبو حنيفة قصر نظره على
الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مراعاة القواعد والأصول.." وهكذا
..
وانقطع الشافعي، يعيد كتابة "الرسالة" ويؤلف
كتبا جديدة في الفقه وينقح ويصوب فيما لم يحرقه من الكتب القديمة. وجهد
جهدا شديدا في هذا العمل. وروى بعض أهله "بما قدمنا المصباح في ليلة واحدة
ثلاثين مرة أو أكثر بين يدي الشافعي، كان يستلقي ويتذكر وينادي: "يا جارية
هلمي مصباحا"فتقدمه ويكتب ويكتب ثم يأمر برفع ثم يعود بعد برهة فيطلبه ..
وهكذا. "وسألوه" "لماذا لا تبقي المصباح فقد أجهدت جاريتك وأهلك؟". فقال:
"الظلمة أجلي للفكر" فقد كان لا يحسن التأمل إلا في السكون والظلمة
.
وبعد
أن فرغ من كتابة فقهه كله أرسل إلى صديقه احمد بن حنبل أن يخبر الناس بترك
كل ما كتبه الشافعي من قبل، وأن يأخذوا آراءه من كتبه المصرية وأرسل إليه
هذه الكتب المصرية. فلما نظر فيها احمد بن حنبل أعجب بها وسأله أحد أصحابه
ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك أم تلك التي كتبها
بمصر؟ قال احمد: "عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه لم يحكم ما كتبه قبل
ذلك ولكنه أحكم كل ما كتبه بمصر
.
اتجه
الشافعي بالفقه اتجاها علميا جديدا، فهو يعني بالقواعد الكلية ولا يضيع
وقته في الفروع، فالكلي ينطبق على الجزئيات. وانتهى في استنباط الحكم من
غير النص، إلى الاتجاه إلى الإجماع كمصدر للأحكام، ولكنه لم يشترط إجماع
الصحابة كما كان من قبل. والشافعي يطالب الفقهاء والولاة والقضاة بإتقان
اللغة العربية، لكي يفهموا النصوص حق الفهم .. فبها نزل القرآن تبيانا لكل
شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .. فمن لا يتقن العربية غير جدير بالنظر في
الشريعة
.. وهو يعني بإتقان العربية إتقان علومها من نحو وصرف وفقه لغة وبلاغة وأدب وشعر.
ولقد حضر رجل من خراسان حلقة الشافعي في جامع عمرو فسأل: ما الإيمان؟
فرد الشافعي: "فما تقول أنت فيه".
فقال الرجل: الإيمان قول.
قال الشافعي: من أين قلت بذلك؟
قال الرجل: "من قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } (البينة،الآية:7)
فصارت الواو فصلا بين الإيمان والعمل.
فسأله الشافعي: "فعندك الواو فصل "قال نعم"
قال الشافعي: "فإذن كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول
{ رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } (الرحمن،الآية:17)
قال الرجل: سبحان الله. أجعلتني وثنيا؟ قال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك بزعمك أن الواو فصل.
وقد
استطاع الشافعي وهو في مصر أن يتحرر في آرائه .. فألف كتابا عن قتال أهل
البغي لعله لم يكن يستطيع أن يضعه في غير مصر!. وقتال أهل البغي قام على
تفسير قوله تعالى
: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله". وقد ورد هذا النص باقتتال المسلمين، إذا فئة منهم بغت على الأخرى ..
وأهل
البغي عند الشافعي هم معاوية بن أبي سفيان وجنوده الذين حاربوا أمير
المؤمنين علي ابن أبي طالب. والشافعي يرى قتالهم واجبا شرعيا .. وكان بنو
على مضطهدين في حكم بني أمية، وظلوا كذلك في حكم بني العباس
.. الحكم الذي عاش في ظله الإمام الشافعي .. فرأيه في أهل البغي يؤيد حزبا تحاربه الدولة ..
لم
يحفل بذلك وهو في مصر، واحتج في قتال أهل البغي وفي حكم الأسرى منهم بما
صنعه الإمام علي في معركة الجمل ومعركة صفين .. فهو لم يقتل أسيرا نمهم،
ولم يقتل رجلا مدبرا عن القتال، وهو لم يغنم من أموالهم إلا السلاح والخيل
والدواب
. أي
أدوات الحرب وحدها! والإمام علي لم يقتل مدبرا من أهل البغي لأنه ربما كان
هذا المدبر بإدباره قد رجع عن البغي ونوى البيعة لأمير المؤمنين، ولم يكن
قتال أهل البغي دراسة تاريخية، بل دراسة فقهية لأن الأحزاب تتقاتل، وينبغي
أن يتحدد حكم واضح في الأمر كله
..
ولقد
نقد بعض أصحاب احمد بن حنبل شيخه الشافعي على كتابه قتال أهل البغي وقالوا
أنه متشيع، فقال احمد: سبحان الله .. وهل أبتلى أحد بقتال أهل البغي قبل
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب!؟. مرة أخرى يضطر الشافعي إلى الاشتغال
بالسياسة .. ولكنه في هذه المرة يضطر إلى الاشتغال بالسياسة لا بحكم
الوظيفة أو المنصب، بل بحكم انشغاله الكامل بالفقه والعلم..! وقد أتاحت له
البيئة الثقافية في مصر أن يفكر ويقول ويكتب في طلاقة وأمن
.
وفي مصر تحدث الشافعي عن الشورى ومكانتها في الإسلام، واعتبرها فرضا على الحاكم والمحكوم .. بها أمر الله ورسوله .. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما لم ينزل فيه وحي "أشيروا علي أيها الناس" .. وما
كان في حاجة إلى مشورة، ولكنه أراد أن يسن لولي الأمر من بعده، وروى عن
أحد الحكماء أنه قال: "ما أخطأت قط، إذا حزبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذي
يرون، فإن أصبت فهم المصيبون وإن أخطأت فهم المخطئون
.
وعلى الحاكم أن يستشير أهل الرأي، ويأخذ برأيهم فيما فيه مصالحهم. ومن العدل أن يحسن اختيار الولاة،
فقد
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ولى من أمر المسلمين شيا فولي رجلا
وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين
"
والشافعي
يرى أن الحاكم واجب الطاعة مادام الناس قد اختاروه باختيار حر، وبيعة لا
إكراه فيها ولا زيف، وإن كان هذا الحاكم قد غلب على الأمر وانتزعه من صاحبه
.. وهو يكتسب الشرعية من مبايعة الرعية فإن رأوا في أمر الحاكم ما يخالف الله ورسوله فلهم ألا يطيعوه.
واستند
في هذا إلى ما كان بين عثمان وعلي، فقد هاجم أبو ذر الكانزين وعاب سلوك
معاوية وجماعته، فشكاه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فنهاه، فلم يسكت
أبو ذر، فنفاه الخليفة إلى مكان منقطع بالصحراء اسمه "الربذة" وأمر بأن
يتجافاه الناس، غير أن علي بن أبي طالب صحب أبا ذر، وودعه كما ودعه عدد من
الصحابة
!.
فقال
عثمان لعلي: " .. ألم يبلغك أني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشيعه؟. فقال
علي: "أو كل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا
أمرك؟ بالله لا نفعل". ثم إن الشافعي اهتدى إلى أن عمل أهل المدينة ليس حجة
على المسلمين في كل البلاد، فقد انتشر الصحابة في كل الأقطار وعلموا
الناس، وقد وجد في عمل أهل مصر ما هو أدنى للعدل وروح الشريعة، كاستحقاق
الزوجة لنصف المهر عند الطلاق
.
بهذه
الآراء الجديدة جلس الإمام الشافعي يعلم الناس ويحاورهم في حلقاته الثلاث
حلقة القرآن، وحلقة الحديث، وحلقة الأدب والمعارف الإنسانية .. وفي هذه
الحلقات لخص قواعد أصول الفقه بقوله: "نحكم بالكتاب والسنة المجمع عليها
التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم
بنسبة رويت عن طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها أي الأحاديث التي يرويها
أحاد، ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورية لأنه
لا يحل القياس والخبر موجود
" .. وفي الحق أن الإمام الشافعي كلف نفسه من المشقة ما لا تحتمله طاقة بشر.
فقد
أعاد في نحو خمسة أعوام كتابه ما ألفه في نحو ثلاثين عاما، وزاد على ذلك
كتبا جديدة كتبها أو أملاها". وبلغ مجموع ما كتبه في مصر آلاف الصفحات،
وجمع معظم ما ألفه في مصر في كتاب "الأم" وشرع يدرس هذا كله في حلقاته،
ويحاور فيه، وينصح مستمعيه ألا ينظروا في علم الكلام الذي يبحث في القدر
والجبر وصفات الله، وأن يهتموا من علوم الدين بالفقه
.
وقال:
"إياكم النظر في الكلام فإن الرجل أو سئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها
"كما لو سئل عن رجل قتل رجلا فقال ديته بيضة كان أكثر شيء إن يضحك منه، ولو
سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب إلى البدعة". أجهده طول الجلوس
للكتابة والتدريس فاشتدت عليه علة البواسير ومرض الأطراف
.
ولعل
أخطر وأحرج ما كان يدور فيه الحوار في حلقات الإمام الشافعي هو خلافه مع
الإمام مالك. ففي مصر من الحمقى والمتعصبين من لا يطيقون أن يجهر أحد
بالخلاف مع مالك. وقد اجتمع بعض هؤلاء بزعامة الفقيه الأحمق "فتيان" وطرح
مسألة خلافية؟ وساق "فتيان" أدلة مالك في المسألة، وساق الشافعي أدلته ..
وظهر الشافعي على "فتيان" وأقحمه فضاق صدر "فتيان
" وانفجر حمقه وشتم الإمام الشافعي شتما قبيحا.
وكان
"فتيان" هذا قد كرر العدوان على الإمام الشافعي، والشافعي يصفح عنه. ولكن
أصحاب الشافعي ذهبوا هذه المرة للوالي ورووا ما كان من أمر "فتيان" مع
إمامهم، وحقق الوالي الشكوى وشهد الشهود على
"فتيان" ولكن الإمام الشافعي سكت حين سأله الوالي فقال الوالي "لو شهد الشافعي على فتيان هذا لقطعت رأسه".
وأمر
الوالي بأن يضرب "فتيان" بالسياط، ثم طيف به على جمل، وقد حلقت لحيته
وشاربه ورأسه، ومن أمامه المنادي ينادي: هذا جزاء من سب آل رسول الله صلى
الله عليه وسلم". ولم يكن الإمام الشافعي سعيدا بما حدث ..

عاد إلى بيته مهموما، وغلبه نزيف البواسير، فقد بلغ به الجهد الذي بذله وأثر فيه الانفعال.
وقال
لمن حوله: إنه ليعرف علته، ولكنه يخالف فيها الطب. فقد كانت علته تتطلب
منه الراحة وعدم إطالة القعود في الكتابة أو في الحلقات. وزاره طبيب مصري.
فتناظرا في الطب، فأعجب به الطبيب المصري، وتمنى عليه أن يشتغل بالطب فقال
الشافعي ضاحكا وهو يشير إلى أصحابه المنتظرين خارج غرفته "هؤلاء لا
يتركونني
".
وخرج الشافعي من داره بعد أيام إلى حلقته من جديد. وتربص به بعض السفهاء ممن تعصبوا لفتيان .. حتى
إذا خلت الحلقة من أصحاب الإمام الشافعي، وبقى وحده، وخلا الجامع من
رواده، باغته السفهاء، وانقضوا عليه يضربونه ضربا عنيفا بهراوات كانوا قد
أخفوها في ملابسهم .. وظلوا يضربونه حتى سقط مغشيا عليه، وهربوا. وحمل
الإمام إلى منزله فاقد الوعي، وعندما أفاق أخذ يعاني أوجاع الضرب، وآلام
الصدمة، والنزيف
!!
ولم
يسعفه العلاج فأرسل إلى السيدة نفيسة يسألها الدعاء كما تعود كلما ألم به
مرض من قبل، فقالت لرسول الإمام "احسن الله لقاءه ومتعه بالنظر إليه" فعلم
أنها النهاية. وجاءه أحد عواده يقول له: "قوى الله ضعفك يا إمام" فتبسم
الشافعي ورد عليه: "قوى الله ضعفي؟! أتدعوا الله أن يزيدني ضعفا؟ .. ادع
الله أن يذهب عني ضعفي وأن يقوي عافيتي لا ضعفي
".
ونصحه
أن يعني هو سائر الفقهاء بإتقان علوم اللغة العربية والعلة تشتد والنزيف
يستمر .. فنادى أحد أصحابه الذين لزموا داره خلال العلة وطلب منه أن يقرأ
عليه ما بعد العشرين والمائة من سورة آل عمران
.
"وأوصى
لجواريه الثلاث وغلامه، وترك لأبنائه ولأهله إرثهم الشرعي" . حتى إذا كانت
الجمعة 28 من رجب سنة 204 هـ. انتقل إلى جوار ربه وهو في الرابعة
والخمسين، وبعد أن ملأ طباق الأرض فقها وعلما، خلال هذا العمر القصير
.
وشيع
يوم الجمعة آخر رجب وحملت جنازته إلى بيت السيدة نفيسة، فصلت عليه وقالت:
"رحمه الله، كان رجلا يحسن الوضوء" .. وهي تعني بالضوء أصل العبادة أي أنه
كان رجلا صالحا حسن العبادة. وهكذا قضى الشافعي شهيد الرأي، بعد حياة حالفة
بالنضال الفكري
.
وعندما
علم احمد بن حنبل بوفاته بكى وقال "إنا لله وإنا إليه راجعون .. رحمه الله
كان كالشمس في الدنيا وكالعافية للناس. فانظر هل لهذين من خلف أو لهما
عوض؟". ولكن الإمام احمد بن حنبل كان نعم الخلف وخير العوض
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:37 pm

الامام مالك بن أنس





اجتمعت
الأسرة الصغيرة ذات مساء. كما تعودت بعد كل صلاة عشاء. تتذاكر أمور الحياة
والدين فيحكي الأب عما صادفه وجه النهار في متجره الصغيرة الذي يبيع فيه
الحرير، وعما عرض له خلاف البيع والشراء من واقعات. ويشرح لأولاده ولأم
البنين ما حفظه عن أبيه عن جده الصحافي من أحاديث وآثار، وتأخذ الأسرة
باستيعاب ما يقول
. وفي تلك الليلة ألقى الأب سؤالا في الدين على أفراد أسرته فاحسنوا الإجابة إلا ولده الأصغر مالكا..
كان
في نحو العاشرة، قد حفظ القرآن وبعض الأحاديث، وامتلأت آفاقه بنور
الكلمات، ولكن عقله لم يكن قد استطاع أن يعي ما فيها .. وكان مالك لنضارة
سنه يحب أن يرتع ويلعب. وغضب أنس على ولده الصغير مالك لأنه أخطأ في
الإجابة على سؤال في الدين، ونهزه لأنه مشغول باللعب مع الحمام، وهذا يلهيه
عن العلم!. وبكى الصبي كما لم يبك من قبل، وفزع إلى أحضان أمه يسألها
الحماية والنصيحة، ويستعينها على ما هو فيه
.
ونشطت
أمه من غدها بعد صلاة الفجر فأدخلته الحمام، وطيبته وألبسته احسن ثياب
وعممته، ودفعت به إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتلقى العلم،
واختارت له حلقة "ربيعة" من بين سبعين حلقة تلتف حول أعمدة المسجد النبوي
يقوم عليها سبعون من أساطين العلم .. "ربيعة" هو حينذاك اكبر فقيه يجتهد
رأيه ليستنبط الحكم عندما لا يجده في نص قطعي الدلالة .. وهو اكثر العلماء
دعوة إلى الاجتهاد والأخذ بالرأي من أجل ذلك سمي ربيعة الرأي
.
ويتعود
الصبي بعد ذلك طيلة حياته أن يستحم ويتطيب ويلبس خير ثيابه كلما جلس يتعلم
أو ليعلم. ولكم عجب رواد المسجد لذلك الصبي الأشقر يفوح منه الطيب في
عمامة الشيوخ وهو يمسك بلوح يكتب فيه كل ما يقوله "ربيعة" ويشرب بعينيه
وأذنيه مسائل صعبة من اجتهاد ربيعة الذي لم يكن يروي أحاديث يمكن أن تحفظ،
بل يلقي بفتاوى واستنباطات يحتاج فهمها إلى عقل ناضج، ورأس كبير جدير
بالعمامة التي يحملها
.
ومنذ
ذلك اليوم من أوائل القرن الثاني للهجرة أخذ مالك نفسه بالمشقة في طلب
العلم .. نصحته أمه أن يذهب إلى المسجد النبوي، فيجلس إلى "ربيعة" ليأخذ من
علمه قبل أدبه .. وكان ربيعة مشهورا في المدينة بفقه الرأي .. ولكن الصبي
لم يعكف على ربيعة وحده، فقد بهره ما في الحلقات الأخرى من فنون المعارف ..
فتنقل بين حلقات الفقهاء .. يحفظ القرآن ويصغي إلى تفسيره في هذه الحلقة
أو تلك .. ثم ينتقل إلى حلقات أخرى فيحفظ منها الأحاديث النبوية ويستوعب
تأويل الأحاديث. ويتلقى فتاوى الصحابة من شيخ، والرد على ما يثار من أفكار
وآراء في العقائد من شيخ آخر .. ثم يعود إلى ربيعة أو غيره من الشيوخ الذي
يجد لديهم علما أغزر
.
كان
يحمل معه حشية تقيه برد المسجد إذا كان الشتاء، وما كان يكتفي بما يتعلم
في المسجد بل يلتمس الشيوخ دروهم يستزيد من علمهم ويصبر على ما في بعضهم من
حدة .. ولقد ينتظر أحد الشيوخ في الطريق ساعات ما يجد فيها شجرة تقيه
الهاجرة حتى إذا رأى الشيخ يعود إلى داره انتظر لحظة ثم قرع عليه بابه.
ولقد يملأ أكمامه بالتمر يهديه لجاريه أحد الفقهاء لتمكنه من الخلوص إلى
المعلم المنشود. وكان مالك إذا جلس ليستمع للأحاديث وهو صبي يحمل معه خيطا
فيعقد مع كل حديث عقدة .. حتى إذا كان آخر النهار، أعاد على نفسه الأحاديث
وعد العقد .. فإن وجد نفسه قد نسى شيئا قرع باب الشيخ الذي سمع منه
الأحاديث فيحفظ منه ما نسى
.
انقطع
مالك لطلب العلم، ومات عائله وشب الفتى وأصبح عليه أن يعول نفسه وزوجته
وبنته .. وكانت به تجارة بأربعمائة دينار ورثها عن أبيه. ولكنه كان مشغولا
عنها بطلب العلم فكسدت تجارته، واضطر إلى أن يبيع خشبا من سقف بيته ليعيش
هو وأسرته بثمنه، وكان الجوع يعضه ويعض زوجه وابنته فتصرخ الطفلة من الجوع
طيلة ليلها.

فيدير
أبوها الرحى ولا يسمع الجيران صراخها .. ولما قد بلغ أوج شبابه، وجد نفسه
عاجزا عن توفير ما يكفي أهل بيته إلا أن يضحي بطلب العلم ..

فانفجرت
أولى صرخات اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم اجتهاده وناشد
الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم من التفرغ للعلم، وأن يجروا عليهم رواتب تكفل
لهم الحياة الكريمة .. غير أن أحدا لم يلتفت إليه، فقد كانت الدولة
الأموية التي عاش شبابه في ظلها مشغولة بتثبيت أركانها، وبتآلف قلوب شيوخ
أهل العلم دون شبابهم
. والتقى
به في تلك الفترة طالب علم شاب من أهل مصر هو الليث بن سعد .. كان قد ألف
أن يحج ما بين عام وعام ويزور المدينة ويجلس إلى حلقات الفقهاء في الحرم
النبوي، وقد أعجب كل واحد منهما بذكاء صاحبه ونشأت بينهما علاقة احترام
متبادل، ألقى الله في قلبيهما مودة ورحمة .. ولاحظ الليث بن سعد أن صديقه ـ
على الرغم من أناقة ثيابه ونظافتها، وعلى الرغم من رائحة المسك والطيب
التي تسبقه ـ فقير جهد الفقر، وإن كان ليداري فقره تعففا وإباء
!..
وكان
الليث واسع الغنى، فمنح صاحبه مالا كثيرا وأقسم عليه أن يقبله. وعاد الليث
إلى وطنه مصر وظل بها يصل صاحبه مالك بن أنس بالهدايا وبالمال، حتى أصلح
الملك حال مالك ووجد من الخلفاء من يستجيب إلى ندائه المتصل أن تجري
الرواتب على أهل العلم. ولقد سئل مالك عن عدم السعي في طلب الرزق والانقطاع
إلى العلم فقال: "لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر
ويؤثره على كل حال .. ومن طلب هذا الأمر صبر عليه..!

وفي
الحق أنه ظل طالب علم بعد أن أصبح فقيها كبيرا يسعى إليه الناس ومن كل
أقطار الأرض وإلى أن توفى سنة 179 هـ وهو في نحو السادسة والثمانين. ولقد
ظل يعلم الناس، عندما جلس للعلم، أن يتحرجوا في الفتيا وفي إبداء آرائهم،
فإذا كان الفقيه غير مثبت مما يقول فعليه في شجاعة أن يعترف بأنه لا يدري.
ذلك أن الفتيا لون من البلاء لأهل العلم. فمن حسب نفسه قد أوتي العلم كله،
فهو جاهل حقا .. وشر الناس مكانا هو من يضع نفسه في مكان ليس أهلا له
. وإن رأى الناس غير ذلك، فصاحب العلم أدرى بنفسه، وللرأي أمانته.
ويحكى
أن رجلا جاءه من أقصى الغرب موفدا من أحد فقهائها، ليسأل مالك ابن أنس عن
مسألة .. فقال مالك: "أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها، فأخبره الرجل أنه
جاء من مسيرة ستة أشهر ليسال عن هذه المسألة. فقال مالك: "وما أدى وما
ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا وما سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم فيها ولكن
تعود غدا". وظل مالك يفكر في المسألة ويقرأ ما يمكن أن يتصل بها حتى إذا
كان الغد جاءه الرجل فقال له مالك: "سألتني وما أدري ما هي" فقال الرجل
"ليس على وجه الأرض أعلم منك وما جئتك من مسيرة أشهر إلا لذلك
" فقال مالك: لا أحسن.
بهذه
الأناة والتحرج كان مالك يعالج الفتيا. ولقد عاش في المدينة المنورة طيلة
حياته منذ ولد فيها نحو سنة 93 هـ إلى أن ثوى تحت ثراها آخر الدهر. لم
يبرحها قط إلا لحج أو عمرة .. كان مالك يجد في المدينة ريح النبوة، ونفحات
علوية من أنفاس الرسول حتى لكأنه يستنشق كل خفقة من أنسام مدينة الرسول
جلال الأيام الباهرة الخالية:

أيام النور والوحي والبطولات والفرقان.
ومازال
أهل المدينة يصغون كما كانوا يصغون في زمن رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
والصحابة الأوائل .. إنهم ليتوارثون سنته الشريفة في القول والعمل، الآباء
عن الأجداد
.. آلافا عن آلاف حتى لقد صح عنده أن عمل أهل المدينة في عصره سنة مؤكدة، وأنه بالاعتبار عند الفتيا والقضايا من أحاديث الآحاد...
إنه
لعاشق لمدينة رسول الله كما لم يعشق أحد مدينة من قبل ولا من بعد، يكاد
يحمل لها من التعظيم ما يحمله للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ولصاحبته.
حكى الشافعي أنه رأى على باب مالك هدايا من خيل خراسانية وبغال مصرية فقال
الشافعي "ما احسن هذه الأفراس والبغال" فقال مالك: "هي لك فخذها جميعا" قال
الشافعي: "ألا تبقي لك منها دابة تركبها؟" قال مالك
: "إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة".
وفي
الحق أن الحياة في المدينة كانت تناسب طبيعة مالك .. فقد ظلت المدينة
بعيدا عن مضطرب التيارات الفكرية التي تصطحب غيرها من مدائن المسلمين، فهي
تعيش على السنن المتوارثة وتنأى بنفسها عن صراع العقائد، والجدل الفلسفي،
وكلام الباحثين فيما وراء الغيب، وكل ما أنتجته ترجمة الفلسفات اليونانية
والهندية والفارسية، إنها حقا قرية مؤمنة ورب غفور
.. ومالك
بن أنس رجل يحب الدعة وينشد السكينة، ويعكف على الدرس المطمئن. وهو يكره
الجدل واللجاج والصخب والمناظرة، والكلام فيما لا ينفع الناس في حياة كل
يوم
.


وكان
يقول لمن سافر لمن يريدون الجدل في العقائد "تجادلوا .. وكلما جاء رجل
أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل، وغير الإنسان دينه". وكان مالك لا يحب
أن يخوض غمرات الصراع السياسي .. وكانت المدينة بالقياس إلى غيرها من بلاد
المسلمين أكثرهن بعدا عن الثورات والفتن ومناهضة الحكام. ولقد بلغ نفوره من
الجدل حدا جعله يصد عنه هارون الرشيد عندما لقيه في المدينة وطلب منه أن
يناظر أبا يوسف صاحب أبي حنيفة
.
فقال
مالك مغضبا: "إن العلم ليس كالتحريش بين البهائم والديكة" كان مالك يعتقد
أن الجدال في الدين مفسدة للدين. وقال: "إن الجدل يبعد المتجادلين عن حقيقة
الدين
. إن
المراء والجدل في الدين يذهبان بنور العلم من قلب المؤمن "وسئل" "رجل له
علم بالسنة ألا يجادل عنها؟" فقال "يخبر بالسنة فان قبل منه، وإلا سكت
."


على
أن الأفكار الجديدة اقتحمت على مالك وأهل المدينة حياتهم، وفرضوا عليهم
النظر فيها، فقد كان أصحابها يذهبون إلى الحجاز للحج والعمرة وللزيارة ..
وكان على مالك وأهل العلماء في المدينة أن يناظروا فيما هو مطروح من أفكار
وكلام. وصفات الله. كيف يرى يوم القيامة وخلق القرآن .. والقدر والجبر
والاختيار. وفرضت القضايا نفسها على فقهاء الحجاز .. أما مالك فقال:
"الكلام في الدين أكرهه وأنهى عنه ولم يزل أهل بلدنا (المدينة) يكرهونه
وينهون عنه .. نحو الكلام في القدر والجبر ونحو ذلك ولا أحب الكلام إلا
فيما تحته عمل. "وما تحته عمل من الدين هو ما يفيد الناس في الأصول
. أما
العقائد فقد نهى عن الجدل فيها وقد فسر مالك كل آية تتحدث عن العداوة
والبغضاء التي تقع بين عباد الله، بأنها الخصومات للجدل في الدين
.
وكان
مالك يتساءل عن جدوى هذه الأفكار المبتدعة عن ذات الله وصفاته والجبر
والاختيار؟ وخلق القرآن؟ وما عساها تحقق من مصالح أو تدفع من مضار؟ إنه
لأولى بأهل العلم أن يشتغلوا بالحكمة
.. والحكمة التي جاءت كثيرا في القرآن هي ـ في رأي مالك ـ في دين الله والعمل به...


ولقد
أطلق مالك على أصحاب الكلام في العقائد والجبر ونحو ذلك من أصحاب بدع وقال
عنهم إنه ما عرف أشد منهم سخفا ولا حمقا .. فما جدوى الكلام فيما يتكلمون
فيه؟ ماذا يحقق جدل كهذا من مصالح للعباد؟ .. إن المعتقدات يجب ألا تكون
موضوع كلام وعلى المسلم العاقل أن يسلم بها تسليما مطلقا، وأن يجعل همه إلى
ما وراء ذلك مما ينفع الناس، ويمكث في الأرض يدفع عنهم الضرر والمفاسد،
ويضبط لهم علاقاتهم وحياتهم ومعاشهم بما يستنبطه من أحكام الشريعة
.


فليسأل أهل العلم أنفسهم ما هو مقصد الشريعة الإسلامية وما هدفها؟ .. وليتقوا الله حق تقاته وهم يجيبون على هذه المسألة
.. أهو
في الشريعة الإسلامية يتخاصم الناس ويتمارون حول القدر وخلق القرآن ورؤية
الله والجبر والاختيار؟ .. وبهذا تنصرف العقول عن التفكير فيما ينفع الناس؟
.. لا بل إن هدف الشريعة هو إقامة العمران في هذا العالم وتحقيق مصالح
العباد في الدنيا والآخرة ...


من
أجل ذلك فقد وجب على العلماء والفقهاء أن يبصروا الناس بما يحقق المصلحة
ويقيم عمارة العالم. وبما يدرأ عنهم المفاسد وبما يضبط أمورهم على أركان
ركنية من العدل والتقوى وصلاح الأمور. والأحكام التي تحقق مقاصد الشريعة
منصوص عليها في القرآن والحديث، ويجب التعرف عليها بكل طرائق الفهم
والتفسير، وتدبر ما وضح وما خفي من دلالات النصوص، فإن لم يسعف النص في
مواجهة ما يستجد من أحداث، فلينظر الفقيه في إجماع الصحابة ليستخلص الحكم،
ففي إجماع الصحابة حجة كالسنة المؤكدة، فإن لم يجد الفقيه ما يشفي فلينظر
في عمل أهل المدينة لأنهم تلقوه آلاف عن آلاف عن الرسول صلى الله عليه
وصحابته .. فإن كان ما استجد من قضايا لا حكم قضية سابقة وأورد به نص إن
توافرت العلة في القضيتين فان تعارض هذا القياس مع مصلحة فليفضل الحكم الذي
يحقق المصلحة استحسانا له .. فهو الأحسن. وإن لم يسعفه القياس فلينظر في
عرف الناس وعاداتهم إن لم يكن مخالفا لما أحله .. فإن لم يجد فلينظر أين
المصلحة .. وليجعل تحقيق المصلحة هو مناط الحكم
.
على
أن مالك بن أنس لم يوفق إلى هذه الأفكار ويدلي برأي إلا بعد أن أصبح صاحب
حلقة يدرس فيها. فهاهو ذا مالك بن أنس تجري به السنون لتعدو الأربعين، وقد
يلزم الفقهاء نحو ثلاثين عاما، فتلقى عنهم الأحاديث النبوية، ومحصها وحقق
إسنادها وتدارس معهم ما ينبغي لاستنباط الأحكام التي تواجه قضايا لم تعرض
من قبل، وتعلم منهم الكتاب والحكمة، وتفكر في خلق السماوات والأرض وأحوال
العباد، وتدارس معاملات الناس، فتكون له رأي خاص، واستقل بنظره في كل أمور
الدنيا والآخرة اتبع في بعضه السنة وأفكار السلف الصالح وعمل أهل المدينة
وأعرافها وعاداتها
.
واستنبط
الأحكام في بعضه الآخر بما يحقق المنفعة ويدرأ المفسدة. جاء الوقت الذي
ينبغي له فيه أن يجلس إلى أحد أعمدة الحرم النبوي، ويجعل له حلقة خاصة يفتي
فيها الناس ويعلمهم ما علم رشدا ويطرح عليهم ما تكون له من فقه وما استقر
عنده من تأويل الأحاديث. وكان مالك قبل أن يجلس ليعلم الناس ويفتيهم، وقد
اختلف مع أستاذه ربيعة، فرأى مالك أن يستقل بحلقة، أقترحها عليه مشايعوه،
غير أنه لم يفعلها من فوره بل طاف على سبعين من أصحاب الحلقات والشيوخ في
المسجد النبوي، يعرض عليهم فقهه، ويستأذنهم في أن يجلس ليعلم الناس
.
وأجازه
له أساتذته لم يختلف على إجازته أحد، اختار المكان الذي كان يجلس فيه عمر
بن الخطاب ليستروح منه جلال الأيام الرائعة الماضية، حين كان كل الصحابة
يعيشون في المدينة المنورة
.. أمسكهم
فيها عمر لا يبرحونها إلا بإذنه، لكي يعلموا الناس، ولكي يستشيرهم إذا
احتاج الأمر، ولكيلا يفتن بهم أهل الأقطار الأخرى من حديثي العهد بالإسلام
.
وكان
مالك بن أنس من قبل قد اختار سكنا له دار الصحابي عبد الله بن مسعود،
ليخفق منه القلب بنبضات عصر النبوة .. ذلك العصر المضيء بنور الإيمان
والمعرفة والشوق المقدس العظيم إلى صياغة عالم جديد من الطهارة والإخاء
والنبل والعدالة والحرية والسكينة والنعيم
..
لقد
أثث مالك بن أنس داره بأجمل أثاث، وزينها بأحسن زينة وملأ أجواءها بعرف
البخور المعطر. ذلك أن الحياة أقبلت عليه .. فنال راتبا كبيرا من بيت
المال، ثم توالت عليه هدايا الخلفاء فقد اقتنع الخلفاء برأيه في أن أهل
العلم يجب ألا يشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، بل يجب أن يكون لهم نصيب من
بيت المال، فينال منه رواتب منتظمة كبيرة، كما ينال قواد الجيش الذين
يقومون على حماية الأمة وسد الثغور
.. فنشر
العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والتوفر على نشر العلم جهاد. وإذن
فينبغي أن يكون لكل من العالم وطالب العلم جزاء المجاهدين كل بقدر ما يكفيه
.
إن
العلماء ليحمون أرواح الناس وعقولهم من الضلال، فمن واجب ولي الأمر أن
يوفر لهم من المال ما يكفل لهم الحياة الكريمة والمظهر اللائق الحسن كخير
ما ينعم به الولاة والأمراء وحماة الثغور. على أنه كان يغدق من راتبه ومما
يتلقى من هدايا على الفقراء من طلاب العلم يعطيهم ما تيسر من المال ويطعمهم
أشهى طعام .. وكان حفيا بمأكله يختار الأطايب من كل صنف وكان مولعا
بالفاكهة وخاصة الموز ويقول عنه: "لا شيء اكثر شبها بثمرات أهل الجنة منه،
لا تطلبه في شتاء ولا صيف إلا وجدته .. قال تعالى
{ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } (الرعد ،الآية: 35) .
وكان
يحض تلاميذه على الاهتمام بحسن التغذية، فالغذاء الجيد يبني الجسم السليم
.. والعقل السليم في الجسم السليم. ومكابدة العلم تحتاج إلى عقول نشطة
تصونها أجساد قوية .. وهكذا عاش منذ بدأ يجلس للإفتاء والتدريس: جسد قوي،
عقل نفاذ .. طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما تنتجه مصر
وخرسان وعدن
.
وألف
الناس كلما دخلوا المسجد النبوي بعد صلاة الفجر أن يجدوا رجلا مهيبا طويلا
فارعا أشقر، أبيض الوجه، واسع العينين، أشم الأنف، كبير اللحية، مفتول
الشارب، يتخذ مكانه في هدوء، ويتحدث في صوت عميق صادق مستندا إلى عمود ومن
حوله حلقة من تلاميذه، كأن على رؤوسهم الطير. فإذا دخل غريب وألقى السلام
لم يرد عليه أحد إلا همسا .. فإذا سأل ما هذا؟ قيل له في صوت خفيض إنه
الإمام مالك بن أنس. فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه إلى القلوب
.. ولم يكن جهير الصوت، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا يفوتهم حرف مما يقول.
وكان
قد خصص أياما لشرح الأحاديث النبوية الشريفة، وأياما للمسائل والفتيا ..
فإذا سأله أحد في أمر لم يقع ولكنه متوقع، قال له: "سل عما يكون ودع ما لا
يكون". ذلك أنه كان يرى أن كثرة الفروض مفسدة، وفيما يقع من الحوادث
والقضايا الجديدة ما يكفي وما يغني عما هو متوقع .. وعندما تقدمت به السن،
عقد حلقات الدرس في بيته الواسع ذي الأثاث الفاخر. ترك مجاملة الناس التي
اشتهر بها "وترك حضور الجنازات، فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك
كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة" وكان إذا عوتب في ذلك
قال: "ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره
".
ذلك
أنه لم يفض لأحد بسر مرضه الذي أقعده عن المسجد والناس إلا فراش الموت
وكان مرضه هو سلس البول. وعندما اشتد عليه المرض بعد أن جاوز الثمانين كره
أن يخرج من داره. وكان في بيته مجلسان في السنوات الثماني الأخيرة من
حياته: فقال أحد تلاميذه
: "إنه كان عندما انتقل درسه إلى بيته، إذا أتاه الناس تخرج لهم الجارية فتقول لهم: يقول
لكم الشيخ أتريدون الحديث أم المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم
فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم اجلسوا، ودخل مغسله فاغتسل وتطيب، ولبس
ثيابا جددا، ولبس ساجه (وهي غطاء للرأس كالتاج) وتعمم، فتلقى له المنصة،
فيخرج إليهم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع، ويوضع عود فلا يزال يبخر حتى يفرغ
من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
ولكم كان حريصا على أن ينتقي الأحاديث. وعلى الرغم من كثرة الأحاديث التي حفظها، فلم يكن يحدث بهن جميعا ..
ولقد
قيل له إن أحد الفقهاء يحدث بأحاديث ليست عندك فقال مالك لو أني حدثت بكل
ما عندي لكأني إذن لأحمق ثم أضاف: لقد خرجت مني أحاديث لوددت لو أني ضربت
بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها "من أجل ذلك قال عنه تلميذه الشافعي: إذا
جاء الحديث فمالك النجم الثاقب
".
وبهذا
الحرج في الحديث كان يتحرج في الفتوى .. فلا يقول هذا حلال وهذا حرام إلا
إذا كان هناك نص قطعي الدلالة. وفيما عدا هذا يقول: أظن ثم يعقب فتواه
مستشهدا بالآية الكريمة: "إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين". ولقد عاتبه
بعض تلاميذه على تحرجه في الفتوى، فاستعبر وبكى وهو يقول: إني أخاف أن يكون
لي منها يوم وأي يوم. وقال يوما لأحد تلاميذه ليس في العلم شيء خفيف. أما
سمعت قول الله تعالى:
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }( المزمل، الآية:6) . فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة".
ولقد
عاتبه بعض الناس في عنايته الفائقة بأثاث البيت، وبملبسه ومأكله فقال:
"أما البيت فهو نسب الإنسان. ثم إني لا أحب لامرئ أنعم الله عليه إلا يرى
أثر نعمته وخاصة أهل العلم". كان يرى في البيت أن البيت الجيد راحة للنفس
والبدن، وأن الطعام الجيد يعين على نشاط الذهن، وأن حسن الثياب يكسب المرء
ثقة بالذات وإحساسا بالسعادة
.
وهكذا
عاش يستمتع بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من
الرزق، نائيا بنفسه عن السياسة، راغبا عن مصاولة الحكام وإن كانوا ظالمين
حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالما. ولا ينبغي الخروج عليه
بالفتنة بل يسعى إلى تغييره بالموعظة الحسنة وبالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر لأن ظلم ساعة خلال الفتنة شر من جور حاكم ظالم طيلة حياته. والحاكم
الظالم يسلط الله عليه ما هو شر منه والله يرمي ظالما بظالم. وعلى هذا سار
أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين .. يحاول جهده أن يكون على الحياد
.
ولكنه
على الرغم من كل شيء لم يعش بمنجاه عن بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من
الحكام مهما يظلمون. لم يهاجم الأمويين فأصابه منهم خير كثير ثم جاء
العباسيون فزادوه من الخيرات .. وأصبح الإمام مالك رجلا غنيا، يعيش في دعة
وسعة ويمنح كل وقته للعلم، ذلك أنه لم يمدح علي بن أبي طالب ولم يساند حقه
في الخلافة .. وكان مدح علي هو ما يغيظ الخلفاء الأمويين العباسيين. وآثر
الحياد، وترك السياسة، وأشفق على نفسه وعلى أهل المدينة بما رأى في شبابه
من مذابح بعد ثورة الخوارج ونهضة الإمام زيد بن علي زين العابدين، على أن
السياسة لم تتركه ولم ينفعه حياد
.!.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
جمال عبدالحي
Admin
Admin
جمال عبدالحي


عدد المساهمات : 5200
النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222
تاريخ التسجيل : 04/10/2010
العمر : 30

بطاقة الشخصية
لعبه: كابتن جمي
ســــوره:
الشخصيات الاسلاميه Left_bar_bleue0/0الشخصيات الاسلاميه Empty_bar_bleue  (0/0)

الشخصيات الاسلاميه Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشخصيات الاسلاميه   الشخصيات الاسلاميه Icon_minitime20/11/11, 06:39 pm

وهو
يشرح في المسجد الحديث الشريف: ليس على مستنكره يمين .. "ويبين للناس أن
من طلق مكرها لا يقع منه طلاق، إذ بأحد أحفاد الحسن بن علي وهو محمد النفس
الذكية، يثور على الخليفة المنصور، لأنه أخذ البيعة لنفسه قسرا فبايعه
الناس مستكرهين. وإذ ببعض الناس في المدينة ينتقض بيعته للمنصور وينضم
لمحمد النفس الزكية إعمالا لهذا الحديث وتطبيقا للسنة. وأرسل والي المدينة
إلى الإمام مالك أن يكف عن الكلام في هذا الحديث، وأن يكتمه عن الناس، لأنه
يحرضهم على الثورة ونقض البيعة
.
ولكن
الإمام مالك أبى أن يكتم هذا العلم، فكاتم العلم ملعون وظل يفسر الحديث
غير آبه بتهديد والي المدينة، وأطلق الحكم الذي جاء به الحديث على كل صور
الإكراه في المعاملات والحياة. فأمر والي المدينة رجاله فضربوا مالكا
أسواطا، ثم جذبوه جذبا غليظا من يده، وجروه منها فانخلع كتفه .. ثم أعادوه
إلى داره وألزموه الإقامة بها لا يخرج منها حتى للصلاة ولا يلقى فيها أحداً
.
وفزع
الناس في المدينة إلى الله يشكو الظالم، وثار سخطهم على الوالي والخليفة
نفسه وغضب الفقهاء والعلماء من كل الأنصار والأقطار. فهاهو ذا عالم يلتزم
الحياد، ينأى بنفسه عن السياسة ودوران دولاتها، ويعكف على العلم ويشرح
للناس حديثا نبويا صحيحا، ويبصرهم بأحكام هذا الحديث فإذا بالدولة بكل
قوتها تبطش به، وهو عالم لا يملك إلا قوة العلم وما يستطيع بعد كتمان هذا
العلم؟

وأخذ
الناس يلعنون والي المدينة والخليفة المنصور الذي ولاه ويتهمون الخليفة
نفسه. وقمع المنصور ثورة النفس الزكية، وقتله هو وآل بيته وصحبه وأتباعه شر
قتلة ومثل بأجسادهم
.. واستقر له الأمر. فاستقدم الخليفة المنصور مالكا ليسترضيه ولكن مالكا لم يقم ولم يبرح محبسه في منزله.
فأمر المنصور والي المدينة فأطلق سراح مالك .. ثم جاء المنصور بنفسه من العراق إلى الحجاز في موسم الحج، واستقبل الإمام مالك بن أنس. وقال
الخليفة معتذرا: "أنا أمرت بالذي كان ولا عملته. أنه لا يزال أهل الحرمين
بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني أخالك أمانا لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك
عنهم سطوة عظيمة فإنهم أسرع الناس إلى الفتن". ثم أضاف الخليفة أنه استحضر
والي المدينة مهانا وحبسه في ضيق، وأمر بألا يغال في إهانته، وأن ينزل به
من العقوبة أضعاف ما نال منها الإمام مالك ابن أنس. فقال الإمام مالك:
"عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه فقد عفوت عنه لقرابته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومنك
".
قال الخليفة المنصور: "فعفا الله عنك ووصلك" .. ووهبه المنصور مالا كثيرا وهدايا ثمينة ثم أضاف:
"إن
رابك ريب من عامل (وال) المدينة أو مكة أو عمال (أي ولاة) الحجاز في ذاتك
أو ذات غيرك، أو سوء أو شر بالرعية فاكتب إلي أنزل بهم ما يستحقون". على أن
الإمام مالك بن أنس لم يكتب إلى الخليفة، على الرغم مما سمع وعاين من شر
بالرعية في جميع أنحاء الحجاز، بل اكتفى بتوجيه النصح والموعظة الحسنة إلى
هؤلاء الولاة
.
على
أن الخليفة المنصور لم يترك الحجاز حتى طلب من الإمام مالك أن يضع كتابا
يتضمن أحاديث الرسول وأقضية الصحابة وأثارهم، ليكون قانون تطبقه الدولة في
كل أقطارها بدلا من ترك الأمر لخلافات المجتهدين والقضاة والفقهاء .. وكان
ابن المقفع الكاتب قد أشار على الخليفة من قبل بإصلاح القضاء وتوحيد
القانون في كل أرجاء الدولة
.
قال المنصور للإمام مالك: "ضع للناس كتابا أحملهم عليه" فحاول مالك أن يعتذر عن المهمة ولكن المنصور ألح:
ضعه
فما أحد اليوم أعلم منك" فقال مالك: "إن الناس تفرقوا في البلاد فأفتى كل
مصر" أي قطر" بما رأى فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول "فقال الخليفة
المنصور: "أما أهل العراق فلا أقبل منهم، فالعلم علم أهل المدينة" فقال
مالك: "إن أهل العراق لا يرضون علمنا" فقال المنصور: "يضرب عليه عامتهم
بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط
".
واقتنع
مالك برأي الخليفة، لأنه هو نفسه كان فكر من قبل، أن يجمع الأحاديث
النبوية في كتاب يضم مع الأحاديث أثار الصحابة، ليجتمع المجتهدون والفقهاء
والقضاة على رأي واحد وانقطع الإمام عاكفا على إعداد الكتاب وأخذ يكتب
وينقح ويحذف أضعاف ما يثبت، وينقح ما يثبت وأسمى كتابه الموطأ
.
والموطأ لغة هو المنقح.
ولبث
ينقح في الكتاب سنين عددا، وخلال تلك السنين أخرج منافسوه من علماء
المدينة كتبا كثيرة في الأحاديث وأثار الصحابة أسموها الموطأت، وسبقوه بها
.. فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا
أمثاله. وأخرجوا ما عملوا فقال: "إئتوني بما عملوا .. فاتوا به فلما فرغ من
النظر فيها، قال: "لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله. أما تلك الكتب
فكأنما ألقيت في الآبار وما يسمع بشيء منها يذكر بعد ذلك ..وفي الحق أن
شيئا من تلك الكتب لم يذكر بعد، وكأنما ألقيت في الآبار .. أما كتاب الموطأ
فقد أنجزه مالك بعد أن قضى المنصور وجاء بعده خليفة وخليفة ثم جاء هارون
الرشيد فأراد أن يعلق كتاب الموطأ في الكعبة ولكن الإمام مالك بن أنس أبى
.
والإمام مالك بن أنس من أفقه الناس بالحديث وأثار الصحابة .. والرأي عنده سنة فقد وعى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي
ونقل
الإمام مالك عن الرسول أنه عليه السلام كان يشاور أصحابه ويأخذ برأيهم ..
وحفظ الإمام مالك من آراء الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه رجل ينكر
ولده لأن امرأته جاءت به أسود والأب أبيض والأم بيضاء، فقال له الرسول
عليه السلام هل لك إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها قال
: "حمر"
فسأله عما إن كان فيها "رمادي" فقال الرجل: "نعم" فسأله الرسول صلى الله
عليه وسلم من أين؟ فقال لرجل: "لعله نزعه عرق. فقال الرسول عليه السلام
وهذا لعله نزعه عرق
"
وعلى
مالك هذا الاجتهاد من الرسول، ووعى صورا عربية أخرى من أخذه بمشورة
الصحابة فيما لم ينزل فيه وحي، فاجتهد مالك هو الآخر معتمدا على حسن الفقه
بالقرآن الكريم، وعمق العلم بالناسخ والمنسوخ، ودلالات النصوص ظاهرها
وخفيها، وأسرار الأحكام في القرآن، وحسن معرفة الأحاديث وأثار الصحابة ..
وقد عرف كل أثار الصحابة إلا فقه الإمام علي بن أبي طالب، إذ صادره
الأمويين وحجبوه، وطارده العباسيون .. غير أن ذلك الفقه كان في حدود البيت
وشيعتهم، وفي كتب يتداولونها خفية
.


ولقد أتيح للإمام مالك أن يعرف الإمام جعفر الصادق صداقة وتدارساً معا
.. وحمل
كل واحد منهما تقديرا عظيما لصاحبه. وفي الحق أن الإمام مالك قد أفاد من
صحبة الإمام جعفر الصادق وأخذ الاعتماد على العقل فيما لم يرد فيه نص غير
أنه أسماه بالاستحسان أو المصلحة المرسلة فقضى بما يحقق مقاصد الشريعة من
توفير المصلحة وجلب النفع ودفع الضرر .. واعتبر المصلحة العامة فوق المصلحة
الخاصة، ووازن بين المصالح وأولاها بالرعاية لتكون هي مناط الحكم. وكما
أعطى أعمال العقل لفقه الإمام الصادق ثراء وتجددا، فقد أثرى الفقه المالكي
باعتماد المصلحة أساسا للحكم حيث لا نص
..


ويقول
الإمام مالك عن علاقته بالإمام جعفر الصادق: "كنت آتى جعفر بن محمد، وكان
كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم أخضر وأصفر.
ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا وإما
صائما وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا على الطهارة ولا يتكلم فيما لا يعنيه. وكان من العلماء الزهاد
العباد الذين يخشون الله. وما رأيته قط إلا يخرج الوسادة من تحته ويجعلها
تحتي
".


أفاد
الإمام مالك من صحبة الإمام جعفر وأخذ عنه كثيرا من طرق استنباط الحكم
ووجوه الرأي وأخذ عنه بعض الأحكام في المعاملات، وأخذ الاعتماد على شاهد
دون شاهدين، إذا حلف المدعي اليمين كما أخذ من الإمام الصادق جعفر بن محمد
أخذ من أبيه الإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن
أبي طالب .. لزم مالك مجلس الإمام محمد الباقر وابنه الإمام جعفر وتعلم
منهما على الرغم من أن رأيه في الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لا
يرضي آل البيت وشيعتهم .. فقد فضل عليه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وجعل الإمام عليا كرم الله وجهه ورضى عنه
كسائر الصحابة
..


ولئن
أغضب هذا الرأي آل البيت والشيعة جميعا، أنه ليرضي الخلفاء الأمويين الذين
أنكروا حق علي ونازعوه الخلافة واغتصبوها منه، وذبحوا الحسين وآله في
كربلاء، وذبحوا كل من ثار من آل البيت كزيد بن علي بن الحسين .. وهذا الرأي
يرضى الخلفاء الأمويين كما أرضى من بعدهم الخلفاء العباسيين الذين رأوا أن
الخلافة تحق لبني العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحق لبني علي
وفاطمة .. وأغروا أحد الشعراء بأن يقول إن بني البنات (يعنون فاطمة الزهراء
رضي الله عنها) لا يرثون بل يرث الأعمام (يعنون العباس) أني يكون وليس
بكائن لبني البنات وارثة الأعمام وقد كان رأي مالك بن أنس حريا، بأن يعطف
عليه قلوب الخلفاء الأمويين والعباسيين وهذا ما كان
.
غير
أن الإمام مالك بن أنس لم ينافق الخلفاء. وإذا كان لم يجهر بالاحتجاج على
مظالمهم، فقد اختار أن يوجه إليهم الموعظة الحسنة كلما اقتضى ـ كما لقيهم
في موسم الحج أو في زيارة الحرم النبوي. وأنكر عليه أحد تلاميذه أنه يتصل
بالأمراء وبالخلفاء لأنهم ظالمون وما ينبغي أن يتصل بهم رجل صالح كالإمام
مالك بن أنس .. فرد مالك: "حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئا من
العلم والفقه أن يدخل على ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر" وربما
يستشير السلطان من لا ينبغي فخير أن يدخل عليه العلماء الصالحون
..


وعندما
ألح عليه تلاميذه في إنكار علاقاته بالخلفاء والأمراء قال: "لولا أني
آتيتهم ما رأيت للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة سنة معمول بها".
وفي الحق أنه كان يعظهم احسن موعظة، الموعظة الحسنة لأولي الأمر خير من
الثورة عليهم واشتعال الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة فقد تلتهم
الظالمين والضحايا الأبرياء جميعا. كان مالك .. يسر النصيحة إلى ولي الأمر
بحيث لا يحرجه أمام الرعية ويصوغها بحيث تقع موقعا حسنا. رأى أحدهم يذهب
إلى الحج في موكب فخيم وسرف الترف باد عليه فقال له: كان عمر بن الخطاب على
فضله ينفخ النار تحت القدر حتى يخرج الدخان من لحيته وقد رضى الناس منك
بدون هذا
.


وقال
لآخر: "افتقد أمور الرعية، فإنك مسئول عنهم، فإن عمر بن الخطاب قال والذي
نفسي بيده لو هلك جمل بشاطئ الفرات ضياعا لظننت أن الله يسألني عنه يوم
القيامة". وكتب خليفة آخر: "أحذر يوما لا ينجيك فيه إلا عملك وليكن لك أسوة
بمن قد مضى من سلفك "وعليك بتقوى الله
".
وكان
أحد الولاة يزور الإمام مالك بن أنس في بيته، ويسأله النصيحة .. فأثنى على
الوالي بعض الحاضرين، فغضب مالك، وكان بعيد الغضب، وصاح في الوالي ـ وقلما
كان يصيح ـ: "إياك أن يغرك هؤلاء بثنائهم عليك، فإن من أثنى عليك وقال فيك
من الخير ما ليس فيك، أوشك أن يقول فيك، من الشر ما ليس فيك .. إنك أنت
أعرف بنفسك منهم
..
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احثوا التراب في وجوه المداحين"
وكان عليه الصلاة والسلام يعظ صاحبته أن كثرة المدح تضيع الممدوح.


وعندما
بلغ مالك من الكبر عتيا كانت شهرته طبقت الآفاق حقا، وكان يلزم بيته في
السنوات الأخيرة لا يخرج إلا نادراً واضطر إلى أن يتخذ له حاجبا ينظم دخول
الناس كما يصنع الخلفاء، وقد اتخذ له بيتا آخر واسعا غير دار بن مسعود فيه
عدد من الجواري الحسان والخدم. وكان يحرجه أن يرفض استقبال أحد، وله أصدقاء
كثير. واستخلص العبرة من كل حياته الماضية وأفضى بنصيحة إلى أحد تلاميذه
ليبثها في الناس من بعده
:
"إياكم ورق الأحرار"
سأله
تلميذه: "وما رق الأحرار؟" قال الإمام مالك "كثرة الأخوان .. فإن كنت
قاضيا ظلمت أو اتهمت بالظلم، وإن كنت عالما ضاع وقتك". وكان مالك يشكو كثرة
الأصدقاء، إذ لا حيلة له معهم، فلا هو يستطيع أن يردهم عنه، ولا هم
يتركونه يعمل أو يعتكف في داره للعلم كما ينبغي له
..


ومهما
يكن من أمر فقد أغنى مالك الفقه الإسلامي برأيه في المصلحة وجعلها مناط
الأحكام وأساسه فيما لم يرد فيه نص ملزم بالإباحة أو المنع، وفي أخذه
بالذرائع فما يؤدي إلى الحلال حلال، وما يؤدي إلى الحرام حرا .. فأنت حر في
ملكك ولكنك في حريتك يجب ألا تضر غيرك فإذا حفرت بئرا خلف بابك تؤدي إلى
سقوط الداخل إليك وهلاكه فهذا حرام .. لأن حفر البئر ذريعة لإهلاك الغير
فهو ممتنع .. والبيع بأقساط ترفع الثمن الأصلي الذي تدفعه معجلا ذريعة إلى
الربا فهو حرام ويجب على ولي الأمر منعه
.. فالأقساط يجب أن تكون ذريعة للتيسير على المشتري لا ذريعة لقهرة على اقتراف الربا، وحمله على دفع ثمن اكبر.


وبهذا
النظر حرام الاحتكار لأنه يحقق مصلحة لفرد أو لأفراد قلائل ويجلب الضرر
على الآخرين .. فالمحتكر يغالي في السعر كيفما شاء، وعامة الناس مضطرون إلى
قبول ما يفرضه وفي هذا ضرر بهم كبير والمحتكر ملعون، بنص الحديث الشريف.
وقد أخذ الإمام مالك في فتاواه وآرائه بالقرآن والسنة والإجماع وعمل أهل
المدينة ورعاية المصالح، أفتى بأمور كثيرة خالفه فيها بعض العلماء والفقهاء
والمجتهدين
.


فقد
أفتى مالك بحق الزوجة في الطلاق إذا لم ينفق عليها زوجها، أو إذا ظهر لها
عيب فيه لم تكن تعرفه وقت العقد .. عيب أي عيب جسديا كان أو خلقيا .. وأفتى
أن ديون الله ـ كالزكاة ونحوها وما يمكن أن نسميه بالضرائب في أيامنا هذه ـ
لا تؤخذ من التركة إلا إذا اعترف المورث بها قبل وفاته .. وحتى إذا ثبتت
هذه الديون بأي طريق آخر من طرق الإثبات، فديون العباد مقدمة عليها .. لأن
العباد "والأفراد" يضارون بعدم دفع ديونهم اكثر من الدولة .. أما عن ديون
الله كالزكاة فالله غفور رحيم
.


وأفتى بأن الحمل قد يستمر في بطن أمه ثلاث سنوات
. ولقد
سخر منه بعض خصومه وزعموا أنه يشجع على الفساد نساء غير صالحات من
المطلقات أو ممن يغيب أو يموت عنهن الأزواج. وأفتى بأن من يبني جدارا في
ملكه ليمنع الشمس والهواء عن جاره، معتد آثم يجب هدم جداره، وإن زعم أنه
يقصد حماية أهل بيته من أعين الجيران
.
وأفتى بعدم جواز صيام ستة من شوال (وهي ما نسميه بستة الأيام البيض). ورفض
الاعتراف بالحديث الخاص بهذا الصيام وأنكره .. وصيام ستة أيام من شوال.
يؤدي إلى زيادة رمضان. وهذا الامتناع عن صيام ستة من شوال هو ما يعمل به
أهل المدينة
.. سنة
عن الرسول أخذها آلاف عن آلاف أولى بالاتباع من حديث نقله آحاد عن آحاد
وأفتى مالك بوجوب وضع ضوابط لحق الرجل في الطلاق وفي الزواج بأكثر من واحدة
بحيث لا تضار الزوجة أو الأولاد، وبحيث تكون مصلحة الأسرة هي العلة
والأساس والأجدر بالرعاية
.


وأفتى
مالك بأن الأعراف والعادات يجب احترامها في استنباط الأحكام ما لم تتعارض
مع نص صريح قطعي الدلالة. وأفتى بأن المحظور يجوز أن يقترف لأن فيه دفعا
لمضرة اكبر
.. أنه ليرى الشريعة مبنية على جلب المنافع والبعد عما يكون طريقا إلى المفاسد .. فكل وسيلة من وسائل العمل يجب أن ينظر إلى نتائجها فإن كانت النتيجة مصلحة فالعمل مباح وإن كانت فسادا وجب منع هذا العمل.


ولقد
ذاع فقه مالك في كل الأمصار والأقطار، وكان في هذا الفقه ما يحمل له عناصر
التجديد كالأخذ بمراعاة تحقيق المصلحة إن لم يوجد نص يبيح أو يمنع، وهو
نظر أخذه من فقه الإمام جعفر الصادق بإعماله العقل في استنباط الحكم حيث لا
يكون نص، وحكم العقل يقضي بالبحث عما يجلب المنفعة ويبعد الضرر. تحقيقا
لمقاصد الشريعة
.

وقد
نما فقه مالك واتبعه وأغناه كثير من المفكرين والمجتهدين والفقهاء من بعده
منهم فليسوف الأندلس ابن رشد .. غير أن بعض معاصري مالك عارضوه معارضة
عنيفة وخالفه ونقده بعض أصحابه منهم الليث بن سعد فقيه مصر، وتلميذه
الشافعي .. ولقد أرسل إليه صاحبه الليث بن سعد رسالة طويلة ذكره فيها بأن
عمل المدينة لم يعد سنة بعد ولا يمكن اتباعه بعد عصر الرسول والخلفاء
الراشدين فالصحابة خرجوا من المدينة بعد مقتل عمر، وتفرقوا في الأمصار،
وبثوا فيها فقههم
.


لقد
كان أوائل أهل المدينة في زمن الرسول عليه السلام هم خير الأوائل ما أو
أخرهم في زمن مالك، فلم يعودوا كذلك بعد .. ولو ينس الإمام الليث بن سعد
فقيه مصر أن يسأل صاحبه الإمام مالك بن أنس إن كان في حاجة إلى مال! ومهما
يكن من أمر الخلاف بين مالك وتلاميذه، فقد عاش مذهب الإمام مالك وتجدد حتى
لقد أخذت قوانين الأحوال الشخصية في مصر منذ مطلع هذا القرن الميلادي حتى
القوانين الأخيرة 1979 ميلادية من هذا المذهب. على أن الذين خالفوا الإمام
مالك بن أنس من صحبه وتلاميذه كانوا يحملون له كل الإجلال والتقدير
والاحترام
..

قال
عنه تلميذه الشافعي: إذ ذكر الحديث فمالك هو النجم الثاقب. أما صاحبه
الليث بن سعد الذي صاحبه عمرا طويلا، وراسله، ووصله بالمال والهدايا،
واختلف معه آخر الأمر، فقد قال عنه أثناء الخلاف وعلى الرغم من الخلاف
"مالك وعاء العلم
".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://    www.b7bkya.ahlamontada.com
 
الشخصيات الاسلاميه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: الإســــــــــــــــلاميات-
انتقل الى: