جمال عبدالحي Admin
عدد المساهمات : 5200 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222 تاريخ التسجيل : 04/10/2010 العمر : 30
بطاقة الشخصية لعبه: كابتن جمي ســــوره: (0/0)
| موضوع: كتاب ليله القدر 05/08/11, 11:46 am | |
| 1- الإعجاز النفسي .. كيف؟
| احتوى القرآن على شرائع الإسلام وأصول دعوته. لكن هذه الشرائع والأصول لا تستغرق جزءاً كبيراً منه، فإن الإسلام دين يسير الرسالة، محدود التكاليف، وغما كثرت السور واستبحرت الآيات لكي يمكن عرض الحقائق الدينية في أسلوب عامر بالإقناع، فياض بالأدلة! نعم تستطيع حصر أحكام القرآن، وزبدة عقائده وتعاليمه في بضع صفحات. وبضع صفحات ليس شيئا هيناً، إنها تتسع لحشد كبير من المعارف الثمينة. بيد أن الوحي الإلهي ليس مجموعة من العلوم رصت في كتاب ثم قدمت للناس. إن عماد هذا الوحي بعد تقرير الحق الذي جاء به هو: كيف يغرس هذا الحق في النفوس، وكيف تفتح أقطارها له، وكيف تبقى عليه وإن تعرضت للفتن، وكيف يبقى فيها وإن زاحمه الباطل وضيق عليه الخناق بصنوف المحرجات..!! إن وحدانية الله جل جلاله أم العقائد الإسلامية، ومبدأ التوحيد لا يحتاج في بيانه إلى كراسات ومجلدات، بل كلمة التوحيد تكتب في سطر وتنطق في لحظات، فهل كذلك الأمر في إشراب القلوب حقيقة التوحيد؟ وتتبع مسالك الإنسان لنفي الشرك عنها، وإلزامها الصراط المستقيم؟ وسرد تاريخ الأمم الأولى، وكيف اجتالتها الشياطين عن الفطرة، فاتخذت من دون الله أوثاناً؟ وكيف لقيت المصير الأسود الذي يجب أن تتعظ به الأجيال الجديدة بعد بوار القرون السابقة؟.. الأمر هنا يحتاج إلى إفاضة واستطراد حتى يستطاع التغلب على طبيعة الإنسان المعاندة، وإغلاق كل منفذ يمكن أن تهرب منه. ولذلك يقول الحق عز وجل: [{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا }] قد يجد في القرآن حقيقة علمية مفردة، ولكن هذه الحقيقة تظهر في ألف ثوب، وهذا الكرار مقصود، وإن لم تزد به الحقيقة العلمية في مفهومها. ذلك أن الغرض ليس تقرير الحقيقة فقط، بل بناء الأفكار والمشاعر عليها، والتقاط آخر ما تختلقه اللجاجة في شبهات وتعلات، ثم الكر عليها بالحجج الدامغة حتى تبقى النفس وليس أمامها مفر من الخضوع للحق والاستكانة لله. وعندي أن قدراً كبيراً من إعجاز القرآن الكريم يرجع إلى هذا. فما أظن امرأ سليم الفكر والضمير يتلو القرآن أو يستمع إليه ثم يزعم أنه لم يتأثر به. قد تقول: ولم يتأثر به؟ الجواب أنه ما من هاجس يعرض للنفس الإنسانية من ناحية الحقائق الدينية إلا ويعرض القرآن له بالهداية وسداد التوجيه. ما أكثر ما يفر المرء من نفسه، وما أكثر الذين يمضون في سبل الحياة هائمين على وجوههم، ما تمسكهم بالدنيا إلا ضرورات المادة فحسب. إن القرآن الكريم بأسلوبه الفريد يرد الصواب إلى أولئك جميعا، وكأنه عرف ضائقة كل ذي ضيق، وزلة كل ذي زلل، ثم تكفل بإزاحتها كلها، كما يعرف الراعي أين تاهت خرافة، فهو يجمعها من هنا وهناك، لا يغيب عن بصره ولا عن عطفه واحد منها. وذاك سر التعميم في قول الله عز وجل: [{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ }] حتى الذين يكذبون بالقرآن ويرفضون الاعتراف بأنه من عند الله. إنهم يقفون منه مثلما يقف الماجن أمام أب ثاكل، قد لا ينخلع من مجونه الغالب عليه، ولكنه يؤخذ فترة ما بصدق العاطفة الباكية. أو مثلما يقف الخلي أمام خطيب يهدر بالصدق، ويحدث العميان عن اليقين الذي يرى ولا يرون. إنه قد يرجع مستهزئاً، ولكنه يرجع بغير النفس التي بها جاء. والمنكرون من هذا النوع لا يطعنون في التأثير النفساني للقرآن الكريم. كما أن العميان لا يطعنون في قيمة الأشعة، ولذا يقول عز وجل: [{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }] وتصريف الأمثال للناس ترددهم بين صنوف المعاني الرائعة. قال العلماء في شرح الآية: [{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ .. }] رددنا وكررنا من كل معنى كالمثل في غرابته وحسنه، أو سقنا لهم وجوه العبر والأحكام والوعد والوعيد، والقصص وغير ذلك. والمقصود أن القرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التي تقهر تفوقه في الجدل، أي بتقديم الدليل المفحم لكل شبهة، وتسليط البرهان القاهر على كل حجة. فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يكون كفراً عن تجاهل لا عن جهل وعن تقصير لا عن قصور. والجدل آفة نفسية وعقلية معا، والنشاط الذهني للمجادل يمده حراك نفسي خفي قلما يهدأ بسهولة. وجماهير البشر لديهم من أسباب الجدل ما يفوق الحصر، ذلك أنهم يرتبطون بما ألفوا أنفسهم عليه من أديان وآراء ومذاهب ارتباطا شديدا، ويصعب عليهم الإحساس بأنهم وآباءهم كانوا في ضلالا مثلا فإذا جاءت رسالة عامة تمزق الغشاوات في العيون، وتكشف للناس ما لم يكونوا يعرفون، فلا تستغربن ما تلقى من الإنكار والتوقف، أو التكذيب والمعارضة. وأسلوب القرآن في استلال الجفوة من النفس، وإلقاء الصواب في الفكر، أوفى على الغاية في هذا المضمار. ذلك أنه لون حديثه للسامعين تلوينا يمزج بين إيقاظ العقل والضمير معا، ثم تابع سوقه متابعة إن أفلت المرء منها أولا لم يفلت آخراً. كما يصاب الهدف حتما على دقة المرمى، وموالاة التصويب. وذلك هو تصريف الأمثال للناس، إنه إحاطة الإنسان بسلسلة من المغريات المنوعة لا معدي له من الركون إلى إحداها. أو معالجة القلوب المغلقة بمفاتيح شتى، لابد أن يستسلم القفل عند واحد منها. وتراكيب القرآن التي تنتهي حتما بهذه النتيجة تستحق التأمل الطويل. ولسنا هنا بصدد الكلام عن بلاغتها، بل بصدد البحث عن المعاني التي تألفت منها، فكان من اجتماعها هذا الأثر الساحر. وهاك مثلا من مئات الأمثلة في هذا الشأن، ترى فيه حديثاً عن مظاهر الكون، ثم إيماء، إلى مشاهد القيامة، ثم تحذيراً للإنسان من الغفلة، ثم دفعاً قويا إلى الطريق السوي لابد فيه من الجمع بين صلاح العقيدة وسلامة الحق وحسن العبادة ودقة المعاملة للناس أجمعين. "كلا والقمر والليل إذا أدبر، والصبح إذا أسفر، إنها لإحدى الكبر نذيراً للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون. عن المجرمين. ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين فيما تنفعهم شفاعة الشافعين". إني اقرأ هذه الآيات فأحس عملها القوي في أرجاء نفسي، غير أنني لا أدري سر هذا العمل القوي!
الكلمات ومعانيها من جنس ما نعرف، أما آثارها فلسنا نعرف مأتاها، وإن تشبثت بأنفسنا إلى أبعد الحدود. والشيء قد يكون في إحدى حالاته مألوفاً لا يثير انتباها، فإذا أظهر هذا الشيء نفسه في أوضاع أخرى اكتنفته معان شتى!! ألا ترى الزخرفة في فن الرسم تتكون من "وحدة" معينة؟ لو رأيت صورتها مفردة ما لفتت نظرك، فإذا كررها الرسام بطرق مختلفة برزت معالم الجمال في أنواع من الزخارف تسحر الألباب. ثم إن إلفك الشيء قد يخفي ما فيه من أسرار، ويصرفك عن اكتشافها. وكثيراً ما تتلو آيات القرآن مثلما تتصفح آلاف الوجوه في الطريق، ملامح تراها قد تكون دميمة، وقد تكون وسيمة، تمر أشكالها بالعين، فما ثبت على أحدها إلا قليل وفي ذهول. لأن المرء مشغول بشأنه الخاص عن دراسة القدرة العليا في نسج هذه العيون، وغرس هذه الرؤوس، وصوغ تلك الشفاة، وإحكام ما تنفرج عنه من أسنان، وما تؤدي إليه من أجهزة دوارة لا تقف لحظة. إننا نقرأ القرآن فيحجبنا ابتداء عن رؤية إعجازه. إنه كلام من جنس ما نعرف، وحروف من جنس ما ننطق، فنمضي في القراءة دون حس كامل بالحقيقة الكبيرة. إلا أن طبيعة هذا القرآن لا تلبث أن تقهر برودة الإلف، وطول المعرفة، فإذا كتاب تتعرى أمامه النفوس، وتنسلخ من تكلفها وتصنعها، وتنزعج من ذهولها وركودها، وتجد نفسها أمام الله جل شأنه يحيط بها وما يناقشها ويعلمها ويؤدبها، فما تستطيع أمام صوت الحق المستعلي العميق إلا أن تخشع وتصيخ. وكما قهر القرآن نوازع الجدل في الإنسان وسكن لجاجته. تغلب على مشاعر الملل فيه، وأمده بنشاط لا ينفد. والجدل غير الملل، هذا تحرك ذهني قد يجسم الأوهام، ويحولها إلى حقائق، وذاك موات عاطفي قد يجمد المشاعر، فما تكاد تتأثر بأخطر الحقائق. وكثير من الناس يصلون في حياتهم العادية إلى هذه المنزلة من الركود العاطفي، فتجد لديهم بروداً غريباً بإزاء المثيرات العاصفة، لا عن ثبات وجلادة، بل عن موت قلوبهم، وشلل حواسهم..!! ونحن نعرف هذه الحالة في طباع الناس، ونحاول علاجها بألوان المثيرات التي لا تخطر ببال. خذ مثلا عاطفة الحب الجنسي، إن هذه العاطفة مع ارتباطها بأعتى الغرائز الإنسانية لم تترك للون واحد من المنشطات المادية والأدبية، بل تسابق الشعراء والمغنون، والملحنون والموسيقيون لمداعبة النفس الإنسانية بألوان من الغناء واللحن والعزف تفوق الحصر. فمن لم تعجبه أغنية هاجته أخرى، ومن استغلق فؤاده أمام لحن انفتح أمام لحن آخر، ومن طال به الإلف فهدأ، اخترعت له فنون أخرى تثير الهامد من إحساسه، وهكذا. وفي أغلب الآفاق المادية المعنوية يحسب لملال الإنسان وكلا له حساب دقيق وتؤخذ الحيطة له كي لا يقف بالمرء في بدايات الطريق..!!! والقرآن الكريم في تحدثه للنفس الإنسانية حارب هذا الملل، وأقصاه عنها إقصاء، وعمل على تجديد حياتها بين الحين والحين حتى إنه ليمكنها أن تستقبل في كل يوم ميلاداً جديداً: [{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}] وإحداث الذكر هو تجديد معنويات الإنسان كما صدئت على طول التعب ومس الذهول. وأسلوب القرآن في هذا المجال يربي على كل تقدير. إنه يخترق أسوار الغفلة ويصل إلى صميم القلب. وتوجد سورة بأكملها حافلة بهذه الإثارات المحركة لوعي الإنسان، المجددة لقواه ومشاعره كلما استراخت وفترت. وقد تقوم سور أخرى على طراز من المعاني التوجيهية كالتشريعات والأحكام لا صلة لها بانفعالات القلوب، وذلك لا يغير من الحقيقة التي شرحناها، فإن شئون المعاملات في القرآن الكريم تستمد قداستها وصدق التأثر بها من مقررات العقيدة والتقوى التي غرستها سائر السور والآيات. والشعور بالرهبة والرقة يغمرك وأنت تستمع إلى قصص الأولين والآخرين تروي بلسان الحق، ثم يتبعها فيض من المواعظ والحكم والمغازي والعبر تقشعر منه الجلود. وأقرب الأمثلة لذلك سور الأعراف وهود والشعراء والقصص. الخ. والهدف الأهم من وراء هذا السرد المتكرر، ليس بيان الحق فقط، بل هو إلى جانب ذلك تعميق مجراه في القلوب تعميقاً ينفي ما طبع على الإنسان من جدل وملل.
|
| |
|
جمال عبدالحي Admin
عدد المساهمات : 5200 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222 تاريخ التسجيل : 04/10/2010 العمر : 30
بطاقة الشخصية لعبه: كابتن جمي ســــوره: (0/0)
| موضوع: رد: كتاب ليله القدر 05/08/11, 11:47 am | |
| 2- الإعجاز العلمي .. وأمثلة شتى!!
| لا سبيل إلى معرفة الله عن طريق التأمل في ذاته، فإن الوسائل إلى ذلك معدومة، وإنما طريق التعرف على الله يبدأ من التأمل في خلقه. وعن طريق التفكير السليم في الحياة والأحياء، واستخلاص المعارف القيمة الخارجة من الأرض أو النازلة من السماء، يمكننا أن ندرك طرفاً من عظمة الخالق، الأعلى، وما ينبغي أن يوصف به من كمال..!!! كيف يعرف روعة القدرة وإحاطة العلم، ودقة الحكمة، وجلال الموجد الكبير، امرؤ مغلق الذهن، مكفوف البصيرة؟ يمشي على الأرض كما تمشي السائمة، لا يستبين من صفحات العالم إلا ما تستبينه الدواب من قوانين الكهرباء، أو أسرار الجاذبية، أو معالم الجمال، أو طبائع العمران. إنك تنظر إلى الآلة الدوارة، ذات التروس المتراكبة، والأذرع المتشابكة تتحرك كما أريد لها بسرعة ونظام، وتؤدي العمل المطلوب منها برتابة وإحكام فما تملك نفسك من أن تشهد بحدة الذكاء للذي اخترعها، ومهارة اليد التي قدرتها، ثم سيرتها. ونحن كذلك ننظر إلى ما بين أيدينا وما خلفنا، وما فوقنا وما تحتنا، فما نملك أنفسنا من الشهادة لله ـ الذي أبرز ذلك كله من العدم ـ بأنه خلق فسوى، وقدر فهدى. وكلما ازدادت معرفتنا بمادة الوجود وسره، وانكشفت لنا آياته وخباياه أحسسنا أن عظمة المبدع الماجد فوق ما يطيقه وعينا المحدود، وان التحية التي تقدم لهذا الإله الجلل هي الاعتراف بأن مظاهر وجوده بهرت كما يبهر ألسنا المتألق عيون الناظرين!!! إن درسا في الطبيعة والكيمياء هو صلاة خاشعة. وإن سياحة في علم الأفلاك هي تسبيح وتحميد. وإن جولة في الحقول الناضرة، والحدائق الزاهرة، أو جولة مثلها في المصانع الطافحة بالحركة، المائجة بالوقود والإنتاج، هي صلة حسنة بالله ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد كنت أهش لحصص العلوم الكونية يوم كنا نتلقى دروسها في مرحلة التعليم الثانوي. وكانت حصيلتنا من هذه الدراسات حسنة، أو هي على الأقل مهاد يستطيع طالب المزيد أن يبني عليه. ثم عرفت أن لجنة تعديل المناهج في الجامع الأزهر طوحت بنصف هذه الدراسات، وردت أكثر الباقي إلى مرحلة التعليم الابتدائي. وحجتها فسح المجال لعلوم اللغة والشريعة. وهذا عمل طائش، والحكة فيه داحضة، فإن العلوم الكونية من صميم المعارف الإسلامية، بل هي أولى بالله وبدينه من أكثر العلوم المنسوبة إلى الإسلام الآن. والحقيقة أن هذا التصرف عودة إلى المعصية التي ارتكبها المفكرون الإسلاميون عندما ذهلوا عن البحث في المادة، وانشغلوا بالبحث فيما وراءها، فرجعوا بعد عدة قرون من هذا الشطط وأيديهم صفر. فلا هم الذين فهموا المادة وانتفعوا بعلومها المتاحة. ولا هم الذين اخترقوا أسوار الغيوب، وعرفوا كنه ما وراء الطبيعة. بل ليت أيديهم عادت صفراً، لقد عادت وملؤها الوهم من فلسفات النظر الفاشل، والتفكير المريض. إن كل توهين للدراسات المادية هو مشاقة واضحة لآيات النظر والتدبر الواردة في القرآن الكريم وما أكثرها. وما نغالي إذا قلنا: إنها حكم بالإعدام على هذه الآيات، ثم إقامة مجتمع ساذج، أو مستغفل أو بليد بين أرض وسماء حافلتين بالنور والقوة. إن الله الذي خلق العقل نوه به وأشاد بقيمته. وإن الله الذي أنزل الإسلام، وأتم به النعمة، جعل ملاك فقهه وقيام أمره على ذلك العقل. وإن الله الذي أبدع هذا العالم لم يلق مفاتيح إبداعه للبله والحمقى، وإنما ألقاها للعالمين الأذكياء. ولم يتح تسخيرها للمفرطين العاجزين، وإنما أتاحها لأولي العزم الأقوياء..! والتطابق بين الكون الممهد، وبين العقل الواعي كالتطابق بين الحق، وغطائه .. فإذا لم يستفق العقل ويؤدي رسالته، انفصمت العلائق بينه وبين هذا العالم، وبالتالي وهت صلته بالله، وانحسرت دون مداها. فمن أين تتأتى معرفة الله على وجه مستكمل جميل إلا عن طريق إمعان النظر في ملكوت الله، ومطالعة روائعه بين الحين والحين؟؟ وإذا كان ذلك طريق ابتداء المعرفة، فهو كذلك طريق مضاعفتها. ولا يصدنك عن هذا الحق أن هناك علماء بالكون يجهلون ربهم، فإن أسباب جهلهم أو جحدهم لا تنبعث من هذه الدراسات. وإذا وجدنا من يقرأ الكتاب العزيز ويكفر به، فليس كفرانه آتياً من قبل قراءته، وما يجرؤ مسلم على تحريم القراءة، لأن بعض المعلوين لم يحسن الإفادة منها، كذلك لا يقبل من أحد أبداً أن يغض من شأن الدراسات الكونية لأنها لم تهد بعض الملحدين إلى رب العالمين. وليس ثمة تفاوت بين العلم والدين، فإن الله الحق هو مصدر الاثنين، وإذا لوحظ أن هناك اختلافاً فليس بين علم ودين، بل بين دين وجهل أخذ سمة العلم، أو بين علم ولغو لبس سمت الدين. وسترى أن القرآن الكريم مستقيم كل الاستقامة مع كل الكشوف التي يميط العلم عنها الستار، وذلك لا ريب من دلائل صدقه وآيات إعجازه. فإن راكب الناقة ابن الصحراء الذي لم يعل اللجج يوما أو يكابد الأنواء حين يجئ على لسانه وصف علمي دقيق للبحر والجو، نجزم بأن هذا الوصف ليس من عنده، بل من عند عالم الغيب والشهادة. هب أن فلاحاً من أغمار الصعيد كتب وصفاً لرحلة جوية بين شاطئ المحيطين، ذكر فيها أنباء لا تعرفها إلا أدق المراصد، وأحوالا ما يتبينها إلا أذكى الطيارين. أتحسب أحداً يصدق بأنه قال ذلك من عند نفسه؟؟ وقبل أن نذكر نماذج للرد المحكم الذي أفرغ القرآن فيه أوصاف الكون، ومشاهد الطبيعة، وقوي العالم، نحب أن نذكر طبيعة الصلة بين العلم والدين، أو بين آيات الله في كتابه الكريم وآياته في هذا الكون العظيم .. وذلك نقلا عن كتاب "سنن الله الكونيه" للدكتور العالم محمد احمد الغمرواي. قال بعد شرح للمسالك التي يتأدى بها العلم إلى نتائجه: "رأيت مثلا من طريقة العلم في تعرف أسرار الفطرة، والاهتداء إلى سنن الله في الكون، وتبينت كيف أن هذه الطريقة تضمن الوصول إلى الحق في القريب أو البعيد، وإن استعانت على ذلك بفرض الفروض. لكن لا خوف قط على الحقيقة من هذه الفروض مادام العلم يطبق فروضه على الواقع، ويمحصها بالتجربة والاختبار. فهذه الطريقة في الواقع هي طريقة العلم في الاجتهاد، وبينها وبين طريقة اجتهاد المجتهدين في الدين وجه شبه مهم هو: أن رجال العلم يستوحون الحقيقة من صنع الله، ورجال الدين يستوحون الحقيقة من كلام الله وحديث رسوله. فكل في الحقيقة مرجعه إلى الله، وإن لم يصل رجال العلم بعد إلى الله. وكل في حكم الدين نفسه مرجعه إلى الله، إذ أن هذه الحقائق الطبيعية التي يكشف عنها العلم ببحوثه إنه هي إلا نوع من كلمات الله، أو هي كلمات الله الواقعة النافذة، كما أن آيات القرآن هي كلمات الله الصادقة المنزلة.
ولقد سمى القرآن حقائق أسرار الخلق كلمات لله في مثل قوله تعالى: [{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}] [{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا }] وكلمات الله في هاتين الآيتين الكريمتين لا يمكن أن تكون كلماته المنزلة على رسله، لأن كلماته سبحانه في كتبه المنزلة محصورة محدودة في حين أن كلماته المشار إليها في هاتين الآيتين لا حصر لها ولا نهاية. فلابد أن تكون هي كلماته النافذة في خلقه، والتي يبدو أثرها متجسما فيما يشاهد من الحوادث، وفيما يكشف العلم من أسرار الكون. فالإسلام متسع للعلم كله: حقائقه وفروضه، والمجتهد مثاب أخطأ أم أصاب، مادام يريد وجه الحق، وإن كان العلم لا يعرف إلى الآن: أن سبيل الحق من سبيل الله. وهذا الكلام يحتاج إلى أمثلة تشرح غوامضه وتكشف خوافيه. ما مظهر الوفاق بين آيات القرآن وأسرار الكون التي أطلعنا العلم عليها في هذا الزمان؟ وأين مصداق ما تلاه محمد على الناس منذ أربعة عشر قرناً، فكان سبقه به دليلا على أنه لا ينطق على الهوى، إن هو إلا وحي يوحي؟ لقد ذكر الدكتور العالم أمثلة شتى تلمحها وهو يصف بدقة حقائق الطبيعة، ثم يسوق بعدها الآيات القرآنية فإذا هي منطوية على هذه الأوصاف أو متجاوبة معها. وكما سخر الله سبحانه وتعالى الجاذبية للإنسان في إجراء الأنهار تسير الهويني أو غير الهويني إلى سطح البحر، سخرها له أيضاً في كبح جماع البحر، ومنعه أن يطغى بمائه الأجاج على النهر أو على اليابسة، فهي دائماً تحبسه في مستقره الذي هو كما قلنا من قبل أقرب مواطن سطح الأرض إلى مركز الأرض. فالبحر لا يستطيع أن يفارق في مستقره ذلك إلا بقوة أخرى تغلب قوة الجاذبية عليه وهيهات، فكأنما البحر ملجم بالجاذبية أن يهجم على اليابسة من الأرض، كلما هم بالهجوم بفعل المد، أو الريح، أو حركة الأرض، جذبته قدرة الله بلجام الجاذبية من خلف، فيعود إلى موطنه الذي كتب عليه أن يبقى مقيداً فيه. ولقد من الله سبحانه على الإنسان بهذا حين من عليه بحجزه بين البحرين، أو بين البحر والنهر، في قوله: [{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا}] وليس ذلك البرزخ والله أعلم إلا ارتفاع ما بين سطح البحر وسطح اليابسة التي يجري فيها النهر. وليس ذلك الحجر المحجور والله أعلم إلا الجاذبية بين البحر ومركز الأرض وحبسها البحر في موطنه. ولقد من الله على الإنسان بذلك مرة أخرى، وعاب عليه، وعجب منه، كيف يشرك مع الله إلها آخر رغم ذلك في قوله سبحانه: [{أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }] فتفهم هذه الآية الكريمة في ضوء ما ذكرناه لك، وتأمل تعقبه سبحانه بقوله: [{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }] تعلم أن ذلك العلم من هذا الدين، وأن هذا القرآن لم يأت إلا من خالق الفطرة، وأنه لا غنى للمسلم عن علم الفطرة إن كان يريد حقاً أن يفهم شيئاً من سر الآيات الكونية في القرآن. على أن أهمية الجاذبية في الكون أعظم من هذا بكثير، فإن الجاذبية كما قد عرفنا ليست بين الأرض وما عليها فقط، بل بين الأرض وما عداها من الكواكب ثم هي أيضا بين كل كوكب وما عداه. فكل كوكب في ملكوت الله يجذب كل كوكب آخر طبق سنة الجاذبية السابق ذكرها، أي بقوة تتناسب مع حاصل ضرب كتلتي الكوكبين مقسوما على مربع المسافة بينهما، وناتج كل هذه القوى الواقعة على الكوكب قوة واحدة يمسكه الله بها في مداره أو فلكه أو في موقعه الذي هو فيه إذا كان النجم من الثوابت. فالجاذبية إذن على قدر علم الإنسان إلى الآن، هي القوة التي يمسك الله بها سبحانه السماوات والأرض في مواقعها التي قدر لها، أو هذا إن شئت هو ما أدركه الإنسان إلى الآن في سر قوله تعالى: [{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ }] وفي قوله تعالى: [{اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}] وما يشبهها من آيات القرآن، إشارة إلى قوى الجاذبية الخافية، التي هي بعد تقدير الله لها سبب بقاء أجرام السماء في أماكنها، ومداراتها المقدرة لها. فإنه إذا فهم من قوله تعالى: [{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}] أن السماوات مرفوعة بعمدٍ غير مرئية كما هو ظاهر الآية كانت تلك العمد غير المرئية هي قوى الجاذبية بين بعض الكواكب وبعض. لأن العمد المعروفة المادية تؤثر أثرها وتحمل أحمالها بإرسال قوى أو ضغوط تساوي وتضاد ضغوط الأبنية عليها كما هو صريح علم القوى، وكما يحصل بالضبط بين الكواكب المتجاذبة. فإذا عجزت العمد على أن تكون ضغوطها المضادة لضغوط المحمولات عليها مساوية لهذا الضغوط، تكسرت الأعمدة والجدران، أو تشققت، ويكون البناء أقرب إلى التداعي بقدر ما بين ضغوط الأعمدة وضغوط الأحمال من فروق. ففي حالة الأعمدة وما تحمل يوجد تضاغط واتزان، كما أن هناك بين الأجرام السماوية تجاذباً وتوازناً، وإن اختلف مدى التوازن ونوعه في الحالين. وينبغي أن نتذكر أيضاً أن الأعمدة ضاغطة، وليس هي بداهة نفس الضغوط الخارجة منها، وأن هذه الضغوط المقاومة لثقل الأبنية غير مرئية وإن رأينا الضاغط من عمود أو جدار. كذلك قوى التجاذب بين أجرام السماء غير مرئية، وإن رأينا أجرام السماء، فالتعبير بالعمد غير المرئية عن القوى التي رفع الله بها السماوات هو أدق تعبير، وأبلغه في الخطاب، يفهم كل منه بقدر ما رزقه الله من الفهم والعلم. [{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}] فقانون الجاذبية هو مفتاح فهم أمثال الآيتين السابقتين من كتاب الله عز وجل، إلا أن اِارة إلى القانون في تلك الآيات الكريمة إشارة عامة من ناحية الوصفية". وهاك شرحه كذلك لظاهرة طبيعية أخرى.
الأمطار: أما العوامل المسببة للأمطار ومحورها كما رأيت الكهرباء الجوية فقد أشير إليها إشارات واضحة في أكثر من آية منم تلك الآيات الكريمة آية الحجر: [{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }] ومفتاح هذه الآية الكريمة هو ترتيب إنزال الماء لسقيا الناس على إرسال الرياح لواقح. والناس يحملون وصف الرياح باللواقح على إنها لواقح للزرع والشجر، وهذا منهم إغفال للنصف الثاني من الآية، إذ لو كان ما ذهبوا إليه هو مراد، لترتب عليه إزكاء الزرع، وإخراج الثمر للناس يأكلونه، لا إنزال الماء من السماء يشربونه. أما وقد رتب الله على إرسال الرياح لواقح إنزال الماء من السماء يسقاه الناس فقد تحتم أن يكون للواقح معنى آخر غير معنى تلقيح الزرع، ويكون مع ذلك من ناحية شبيها بلقاح الأحياء، من زروع وحيوان، ومن ناحية أخرى يكون بينه وبين نزول الماء ما بين العلة والمعلول، أو السبب والمسبب. وما عليك إلا أن تذكر ما قدمنا لك عن تكاثف السحاب مطراً، وعن آثر كهربائيته في ذلك التكاثف، وأثر الرياح في تمهيد سبل الاتحاد بين كهربائية وكهربائية في سحاب وسحاب، لتعلم أن المراد من وصف الرياح بأنها "لواقح" ليس هو الإشارة إلى أثرها في الجمع بين طلع أعضاء التذكير، وبويضات التأنيث في النبات، ولكن هو الإشارة إلى أثرها في الجمع بين الكهربائية الموجبة والكهربائية السالبة في السحاب. فالملاقحة هنا بين قطيرات وقطيرات أو بين سحاب وسحاب لا بين زهر وزهر!! والشبه تام بين هذا التلقيح النباتي، وذلك التلقيح الكهربائي، أو بالأحرى ليس هناك تشبيه مطلقاً، فإن أتحاد الكهربائيتين تلقيح، إن كان اتحاد الخليتين تلقيحاً، لأنه في الحالين اتحاد تام بين شيئين متضادين متجاذبين، يختفي به الشيئان، ويظهر مكانهما شيء آخر غيرهما. ففي حالة التلقيح النباتي ينشأ من بين الخليتين خلية واحدة لها خواص غير خواص أيهما، وفي حال التلقيح الكهربائي ينشأ من بين الكهربائيتين ضوء وحرارة لهما خواص غير خواص الكهربائيتين. فهذا شرط الشبه الشديد للقاح الأحياء قد توفر. أما شرط ترتيب نزول الماء على تحقق هذا الإلقاح، فقد عرفت توفره من ترتب تكاثف السحاب مطراً على التفريغ الكهربائي السحابي. فآية الحجر تلك هي مظهر من مظاهر الإعجاز المتجدد للقرآن، لأن تلاقح السحاب وأثره في نزول المطر، أمر كان يجهله الإنسان، حتى كشف عنه العلم الحديث. وهي طبعا مثل رائع من التطابق التام بين العلم والدين في الإسلام. وآية أخرى أكثر تفصيلا من آية الحجر هي آية النور: [{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }] ومفتاح هذه الآية الكريمة هو قوله تعالى: "ثم يؤلف بينه" فقد كان الناس يمرون بهذه الكلمات الكريمة يرونها مجازا من المجازات البلاغية، وهي حقيقة من أمهات الحقائق الكونية. وهذه الكلمات مفتاح الآية الكريمة، لأنها تدل بوضوح على الحقيقة الكهربائية التي تقوم عليها تلك الظواهر الجوية كلها، فإن التأليف بين السحاب ما هو إلا إشارة واضحة، بل وصف دقيق للتقريب بين السحاب المختلف الكهربائية، حتى يتجاذب، ويتعبأ في الجو تعبئة كتعبئة الجيوش، يتفق مع ما يريد الله أن يخلقه من بين السحاب من برق، وصواعق، ومن مطر أو برد. فإذا كان السحاب المتجاذب بعضه فوق بعض، نشأ السحاب الركام. وقد ذكرنا لك قبل .. ما وجدوه من أن عمق الركام من العواصف الرعدية يكون عظيما، فإذا حدث التفريغ داخل السحاب بين بعض تلك الطبقات وبعض كما هو الغالب نزل المطر الناشئ عن ذلك التفريغ من خلال الطبقات الدنيا، وتكبر قطراته أثناء نزولها بما تستلحقه من القطيرات، وهو الودق. فإذا بلغت الحالة الجوية الكهربائية في ذلك السحاب الركام من القوة ومن الاضطراب، ما يسمح بوقوع تلك الظاهرة الغريبة، ظاهرة تردد بلورات الماء بين منطقتين، ثلجية علوية ومطرية سفلية، تكون البرد، ونما حتى يصير أثقل من أن يظل في أسر تلك القوى، فيسقط على الأرض رحمة إن كان صغيراً هيناً، ونقمة إن كان كبيراً راجماً. [{فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء }] وليس يدري الإنسان كثيرا عن الظروف التي يتكون فيها البرد، لكنه يدري أنها ظروف يسودها اضطراب جوي عظيم. هذا الاضطراب قد أشارت الآية إليه وإلى طبيعته إشارتين: الأولى: حين شبهت السحاب الركام الذي يتكون البرد داخله .. بالجبال. والثانية: حين أشارت إلى عظم القوى الكهربائية المشتركة في تكوينه بنصها على عظم برقه وشدته وبلوغه من الحرارة درجة الابيضاض أو ما فوق ذلك: [{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ }] وهناك آية أخرى أشارت إلى الطبيعة الكهربائية لتلك الظواهر إشارة من نوع آخر، هي آية الواقعة: [{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ "68" أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ "69" لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ "70"}] وتستطيع بعد أن عرفت العوامل المتعددة التي لابد من تعاونها على تكوين المطر أن تدرك شيئا من سر الحجة في هذا السؤال العجيب: [{أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ؟}] لكن الإشارة التي أردنا أن نلفت النظر إليها هي في قوله تعالى: [{لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ }] والناس طبعا يسلمون بالقدرة الإلهية على قلب العذب أجاجاً، ويظنون أن هذا يكون عن طريق الخوارق، ولا يتساءلون: هل في سنن الله ما يسمح بهذا؟ ولو تساءلوا وتطلبوا الجواب في العلم لوجدوه قريباً، ولعرفوا أن عذوبة الماء الذي يسقيهم الله إياه من السحاب هي بمحض رحمة الله. إن الماء طبعا عذب بطبيعته، وماء المطر معروف أنه أنقى المياه، لكن طبيعة تكونه من السحاب تعرضه لأن ينقلب أجاجاً لا ينتفع به الإنسان. إن الهواء كما تعرف أربعة أخماسه أزوت ونتروجين، والأزوت كما تعرف أيضا لا يكاد يتحد في العادة بشيء، ولا بالأكسجين الذي يكاد يتحد بكل شيء. لكن الكيميائيين وجدوا أنهم يستطيعون بالكهربائية أن يحولوا الأزوت غير الفعال إلى أزوت فعال، يتحد بأشياء كثيرة في درجة الحرارة العادية. كما وجدوا أنهم يستطيعون أن يحملوا الأزوت على الاتحاد بالأكسجين، بإمرار الشرر الكهربائي في مخلوط منهما، ومن هذا الاتحاد ينشأ بعض أكاسيد للأزوت قابل للذوبان في الماء، وإذا ذاب فيه اتحد به، وكون حمضين أزوتين، أحدهما: حمض الأزوتيك، أو ماء النار، كما كان يسميه القدماء، وإليه يصير الحمض الثاني. وقليل من حمض الأزوتيك في الماء كاف لإفساد طعمه. وأظنك الآن بدأت تدرك الطريق الذي يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماء أجاجاً، من غير خرق لأي سنة من سنن الله. فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكون به المطر، وكل الذي يلزم: أن يتعدل التفريغ الكهربائي، ويتكرر في الهواء تكراراً يتكون به مقدار كاف من تلك الأكاسيد الأزوتية يذوب في ماء السحاب، ويحول حمضيا لا يسيغه الناس. وهذا هو موضع المن من الله على الناس: أنه يكيف التفريغ بالصورة التي ينزل بها المطر، ولا يؤج بها الماء. إن شيئا من ذينك الحمضين لابد أن يترك في ماء العواصف، وهذا ضروري للحياة لأنه يتحول في الأرض إلى الأزوتات الضرورية لحياة النبات. لكن الله برحمته وحكمته يقدر تكونه بحيث لا يتأذى به إنسان ولا حيوان. ولو شاء الله لكثر الحمض في ماء المطر فأفسده على الناس. وسواء شكر الناس هذه النعمة أم كفروها، فإن الله في قوله تعالى: [{لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا }] إشارة إلى تلك العوامل الكهربائية التي يتكون بها المطر، يفهمها من يفقه تلك الحقائق السابقة، ومن يعرف أن الطريق الكهربائي هو أحد الطرق العلمية التي يمكن بها تحويل الأزوت الجوي إلى حمض.
|
| |
|
جمال عبدالحي Admin
عدد المساهمات : 5200 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222 تاريخ التسجيل : 04/10/2010 العمر : 30
بطاقة الشخصية لعبه: كابتن جمي ســــوره: (0/0)
| موضوع: رد: كتاب ليله القدر 05/08/11, 11:47 am | |
| 3- الأعجاز البياني .. وهذا التفرد!!
| إني واحد من الألوف التي قرأت هذا القرآن، ومررت بمعانيه وغايته مرور العابر حيناً، ومرور المتفرس المتأمل حيناً آخر. والقرآن ليس الكتاب الوحيد الذي طالعته، فقد طالعت مئات الكتب الأخرى على اختلاف موضوعاتها، واقتربت من نفوس أصحابها ومن ألبابهم، وأذنت لهذه الكتب أن تترك آثارها في فكري، لأقلبها على مكث، وأنتفع بما أراه نافعاً وألفظ ما أراه باطلا. ومن اليسير علي وعلى أي قارئ مثلي أن يكون حكما معينا على الكتاب الذي تناوله فقد أخلص من قراءة كتاب ما، ثم أقول: هذا لمؤلف واسع الإطلاع. أو أقول: إن ثقافته غزيرة في الآداب الأجنبية، أو إنه طائل الثروة في الأدب العربي القديم، أو إنه ملم بآخر ما وصلت إليه الكشوف العلمية، أو إنه قصير الباع في إعطاء المعنى حقه، أو إنه مصطبغ بلون يساري، أو أنه من المعجبين بالفيلسوف الفلاني، أو إن في نفسه عقده تميل بأسلوبه إلى الحدة في ناحية كذا أو إنه مرن الفهم والأداء .. الخ. وقلما أعجز من استبانة الخصائص الإنسانية المتباينة في تآليف الرجال الذين طالعت نتاجهم الذهني، أو آثارهم الروحية. وكثيرون غيري يجدون في أنفسهم هذه القدرة. وقد تلوت القرآن مراراً، ورجعت بصري في آياته وسوره، وحاولت أن أجد شبها بين الأثر النفسي والذهني لما يكتب العلماء والأدباء، وبين الأثر النفسي والذهني لهذا القرآن، فلم أقع على شيء البتة. وقد أحكم بأن كتاباً ما صدر عن مؤلف في عصر كذا، وأن جنسية هذا المؤلف ومزاجه وأهدافه هي كيت وكيت. أما بعد قراءة القرآن، فأجزم بأن قائل هذا الكلام محيط بالسماوات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر وأسرار النفوس، يتحدث إلى الناس تحدث السيد الحقيقي إلى عباده الذين خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون في هالة من الجبروت والتعالي، يستحيل أن تلمح فيها شارة لتكليف أو ادعاء. ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه إحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك متجاوب مع فطرتك، صريح في مكاشفتك بمالك أو ما عليك، متلطف في إقناعك، فما تجد بداً من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقلبه. ولا تحسبن هذا الوصف متأثراً بمواريث التدين التي انتقلت إلينا من الأولين فإن الكفار أنفسهم أدركوا أن القرآن متباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدي سماعه. فقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من زعماء الكفر في مكة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى ما يتلو من هذا القرآن فلما أنصت وتدبر، كأنما رق له قلبه، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه وقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا ليعطوك إياه، فإنك أتيت محمداً وملت إلى دينه..!! قال الوليد مستنكرا عرض المال عليه لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك، فيعلمون أنك مكذب له وكاره. قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقوله محمد شيئا من هذا، وواله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. وغضب أبو جهل لهذه الشهادة، فإن الصدق في هذه القضية لا يعنيه، بل يؤذيه!! والعراك على الرياسة في هذه البيئات يذهل عن شئون الكفر والإيمان. فليكن محمد صادقاً. وليكن كلامه وحيا. بيد أن المصلحة القبلية تقضي بكتمان أمره، وانتقاص شخصه. ولذلك عاد أبو جهل يلح على الوليد: لا يرضي عنك قومك حتى تقول فيه! فقال الوليد: دعني أفكر. وفكر الوليد، ثم أحب أن يكون منطقيا مع نفسه فقال: هذا سحر!! ولعله يقصد بالسحر ما جاءت به قوى خفية، لا يعرف الناس عادة حقيقتها. وفي هذا الحوار نزل قوله عز وجل: [{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا "11" وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا "12" وَبَنِينَ شُهُودًا "13" وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا "14" ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ "15" كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا "16" سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا "17" إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ "18" فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ "19" ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ "20" ثُمَّ نَظَرَ "21" ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ "22" ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ "23" فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ "24" إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ "25" سَأُصْلِيهِ سَقَرَ "26" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ "27"}] والواقع أن من الكذب الشائن على الفطرة والبداهة، وعلى العقل والرواية، أن يزعم زاعم بأن القرآن كلام عادي، وأن أدبياً راسخ القدم في البلاغة يستطيع أن يجئ بمثله. وقد تساءل كثيرون عن أسرار هذا التفرد الذي اتصف به القرآن الكريم. ولاشك أن المعاني التي يتضمنها والتي نسج سداها ولحمتها من الحق الخالد أساس لهذا الإعجاز، بيد أن المعنى على جلاله إن لحقه قصور في صورته وأثره، نقصت قيمته، وطاشت دلالته. وهناك معان جميلة في نفوس أصحابها، ولو استبانت على السطور لأشرقت بها الصحائف .. ولكنها مشاعر في النفوس فحسب. إن الكلام لفي الفؤاد وإنما .. جعل اللسان على الفؤاد دليلا فتصوير المعنى الصادق حتى يبرز في الحروف كما يبرز الجمال الإنساني في أبهى حلله، وحتى ينتقل سناه إلى الأفئدة نفاذاً أخاذاً ركن ركين في خدمة الحقيقة، وبسط سلطانها، وإزاحة العوائق من أمامها. وقد تعرض لفيف من علماء الإسلام لشرح الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
وكنت أنا نفسي كثير الطواف حول هذا الجمال البياني، أسرح فيه الطرف وأردد فيه الفكر، لكني كنت كالذي شغله الإعجاز بالجمال، عن وضع تفاسير له، أو لعلني حاولت ثم غلبني القصور، فتوقفت مؤقتاً حتى تسنح فرصة. إلى أن قرأت للمرحوم العلامة الشيخ "محمد عبد الله دراز" كتابه "النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن" فرأيت الرجل وفى هذا المجال حقه، وأفاض في الحديث، كأنما يتدفق من ينبوع لا يغيض أبدا. وودت لو أن الرجل بقى حتى أكمل ما بدأ، بيد أن المنية عاجلته فقضى وهو مجاهد في سبيل ربه ـ طيب الله ثراه. شرح الدكتور في تفصيل طويل المعاني التي احتواها القرآن التي يستحيل بالبراهين الحاسمة أن تصدر عن بشر، وأحصى جملة الشبه التي يمكن أن تخطر ببال أي متردد مرتاب، ثم أجهز عليها. ومضى يستعرض ما يقوله المستقصي في طلب الحقيقة وبسط الإجابة في أدب وفقه، واسمع إلى هذا البيان: "فإن قال: قد تبينت الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزاً". وإنهم وجدوا في طبيعة القرآن سراً من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم، ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من نطاق هذا السر، لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية. فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفت جملة وآياته، على مناهجهم في التأليف جاء تأليفه. فأي جديد في مفردات القرآن لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها، وأي جديد في تركيب القرآن لم يعرفه العرب من طرائقها، ولم تأخذ به في مذاهبها حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية. قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سسن العرب في كلامهم إفراداً وتركيباً فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز. وأوضح في قطع الأعذار "ولو جعلنا قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي". فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان. فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدراناً مرفوعة، وسقفاً موضوعة، وأبواباً مشرعة. ولكنهم تتفاضل صناعتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد، وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس، وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء. فمنهم من يفي بذلك كله، أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتا بعيداً. كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى، يتفاوت حظها في الحسن والقبول. وما من كلمة من كلامهم، ور وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة. ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتفتر منه نفسك، وينفر منه طبعك". وينتقل الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز إلى خصائص الأسلوب القرآني، فيبين الأسباب التي بلغ بها درجة الإعجاز، ولولا أن الرجل حافظ فاقه لكتاب الله، وضليع مكين في آداب العربية، وعابد مخبت تفتت أمام بصيرته النيرة الحكم البالغات التي غابت عن غيره، ما استطاع أن يصور لنا هذه الخصائص ويجعلها منا رأى العين .. ونكتفي بنماذج قليلة من كلماته، لا تغني ألبته عن مدارسة الكتاب ذاته. قال: وهاتان غايتان أخريان متباعدتان عن الناس. فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به الأغنياء لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب. ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء، لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم. فلا غنى لك ـ إن أردت أن تعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك ـ أن تخاطب كل واحدة منهما بغير ما تخاطب به الأخرى. كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال. فأما أن جملة واحدة تلقي إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله، وعلى وفق حاجته، فتلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم. فهو قرآن واحد، يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة. فهو متعة العامة والخاصة على السواء، ميسر لكل من أراد: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر". وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير، وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها. فأما إحداهما، فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به. وأما الأخرى: فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم. والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين، ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية، والمتعة الوجدانية معا. فهل رأيت هذا التمام من كلام الناس؟ لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلواً في جانب، وقصوراً في جانب. فأما الحكماء: فإنما يؤدون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك، ولا تتوجه نفوسهم إلى استهواء نفسك، واختلاب عاطفتك. فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعري ونبو عن الطباع. "وأما" الشعراء: فإنما يسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، فلا يبالون بما صوروه لك أن يكون غياً أو رشداً، وأن يكون حقيقية أو تخيلاً. فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون. "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون". وكل امرئ حين يفكر، فإنما هو فيلسوف صغير، فسل علماء النفس: "هل رأيتم أحداُ تتكافأ فيه قوة التفكير، وقوة الوجدان، وسائر القوى النفسية على سواء؟ ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس، هل ترونها تعمل في النفس دفعة واحدة وبنسبة واحدة؟". يجيبونك بلسان واحد: كلا، بل لا تعمل إلا مناوبة في حال بعد حال، وكلما تسلط واحد منهن اضمحلت الأخرى، وكاد ينمحي أثرها. فالذي ينهمك في التفكير تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم، يضعف تفكيره وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى جانب من هاتين الغايتين قصداً واحداً، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معاً. وصدق الله: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه". فكيف تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء؟ وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من بين تلك الأحوال. هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم، أي القوتين كان خاضعا لها حين قال أو كتب. فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة علمية، قلت: هذا ثمرة الفكرة. "وإذا" رأيته يعمد إلى تحريص النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة. "وإذا" رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر، فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور نفسه. وأما أن أسلوبا واحدا، يتجه اتجاهاً واحداً، يجمع في يديك هذين الطرفين معاً، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقاً وأزهاراً وأثماراً معاً، أو كما يسري الروح في الجسد، والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية. فمن لك إذن بهذا الكلام الواحد الذي يجئ من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟ ذلك الله رب العالمين. فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معاً بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معاً، يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شراباً خالصاً سائغاً للشاربين. وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت. ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره، لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟ أولا تراه في معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب، يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها. [{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }] [{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ "13" وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ "14"}]
|
| |
|
جمال عبدالحي Admin
عدد المساهمات : 5200 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222 تاريخ التسجيل : 04/10/2010 العمر : 30
بطاقة الشخصية لعبه: كابتن جمي ســــوره: (0/0)
| موضوع: رد: كتاب ليله القدر 05/08/11, 11:48 am | |
| 4- القرآن مدهش .. من أي وجه كان!!
| وكتب السيد هبة الدين الحسيني رسالة جيدة في إعجاز القرآن لخصها الأستاذ عيسى صباغ في هاتين النظرتين: يقول الشيخ هبة الدين: لا ريب أن القرآن قد أدهش نوابغ العرب، وأخرس شقشقة البلغاء في عصره. ولكن: ألأسلوبه الرائق، ولفظه الريق، ونظامه العجيب؟ أم لبدائع معانيه الجذابة، وعظمة مبادئه، ولطائف أمثاله فيه؟. لا نعلم . وإنما نعلم أنه أدهش ويدهش العربي العارف .. وربما كان أثره في العامة من النواحي الأولى، وفي الخاصة من النواحي الأخرى، كما أثر بأنبائه الغريبة، وبأسرار في إشارته واستعاراته في الأجيال السائرة. أجل، هذا القرآن مدهش من أي وجه كان، وآية عبقريته ساطعة، وقد استعان به منقذ العرب بعد ما غدوا سكارى بخمرته، فأحيا ذكرهم، وأصلح أمرهم، وأدبهم كما شاء وشاءت المصلحة، واستخراجهم من ظلمة العادات القاسية إلى ضياء عيشة راضية. ثم استخدم أولئك المهتدين بأنوار القرآن كألسنة لدعوة الأمم، وسيوف لإدانة العالم. ويستطرد إلى بيان ميزة القرآن بين المعجزات، فيقول بأسلوبه السهل البليغ: "أن اكبر ميزة في القرآن وهي التي وضعته فوق المعجزات كلها هي أنه مجموعة فصول ليس سوى صبابة أحرف عربية .. من أيسر أعمال البشر، وقد فاقت مع ذلك عبقرية كل عبقري .. فلم يخلق رب الإنسان للإنسان عملا ـ بعد التفكير ـ أيسر لديه من الكلام". وكلما كان العمل البشري أيسر صدوراً، وأكثر وجوداً، قل النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه. هذا. ونرى الناس في عهدنا مطبوعين على استحباب الشهرة والأثرة وطلب التفاضل والتفاخر فإذا رأوا أحدهم يبغي التفوق عليهم بصناعته، اندفعوا بكل قواهم إلى مباراته، وجدوا لكي يأتوا بخير منه. وقد فطر البشر على مثل هذا الشعور .. والشعب العربي المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم، كان ولا ريب منطوياً على هذا الشعور تماماً. فلماذا لم يندفع إلى مباراة القرآن؟ ولاسيما بعدما شاهدوا من صناعة هذا النبي صلى الله عليه وسلم فائدة وعائدة. ولم لم يعارضوا عبقريته في البلاغة وهو فرد وهم ألوف؟ العدم وجود أساتذة فيهم لهذه الصناعة؟ كلا، لقد كانت تربة الحجاز خصبة منبتة لأساتذة الفصاحة والبلاغة. فلم لم يندفعوا إلى معارضته بالمثل، وهو المعارض لهم بكل ما يستطيع من قوة؟ ولماذا اندفعوا إلى مقاتلته دون مقابلته؟ وإلى مقابلته بالأسنة دون الألسنة؟ وبالحراب بدل الكتاب؟ حتى أفرغوا كنانتهم برمي آخر نبلة فيها ولم ينجحوا. ليت شعري مم وبم أعجزت عبقرية ذلك الفرد المستضعف فيهم وهم ألوف، ومعتزون بألوف؟ وكيف أعجزتهم أسطر وكلمات وحروف؟ ثم ينتقل المؤلف إلى تحليل تلك الدهشة وتعليل بواعثها، فيقول: "حري بنا أن نحلل هذه الدهشة الغريبة وأسبابها الحقيقية ونقيس أنفسنا "ونحن في هذا القرآن" على أولئك الأساتذة "وإن كانوا في القرون الأولى" قياساً حسب ذلك المقياس القائل "الناس كالناس، والأيام واحدة" فإذا عم الإعجاب القرآن أساتذة عصرنا الراقي، فلا نلوم المعجبين بالقرآن في القرون الأولى". ثم يستشهد بتقدير العلامة جبر ضومط في كتاب "الخواطر الحسان" لآيات القرآن وبلاغتها وبشعر ونثر للفيلسوف الدكتور شيلي شميل القائل:
دع من محمد، في صدي قرآنه إني وإن أك قد كفرت بدينه ومواعظ لو أنهم عملوا بها من دونه الأبطال في كل الواري قد نحاه للحمة والغايات هل أكفرن بمحكم الآيات؟ ما قيدوا العمران بالعادات؟ من حاضر أو غائب أو آت! كما قال: إن في القرآن أصولا اجتماعية عامة فيها من المرونة ما يجعلها صالحة للآخذ بها في كل زمان ومكان .. حتى في أمر النساء، فإنه كلفهن بأن يكون محجوبات عن الريب والفواحش، وأوجب على الرجل أن يتزوج واحدة عند عدم إمكان العدل. والقرآن قد فتح أمام البشر أبواب العمل في الدنيا والآخرة، بعد أن أغلق غيره من الأديان تلك الأبواب. وذكر أن الشيخ ناصف اليازجي أوصى ولده إبراهيم لتقوية براعته في الأدب العربي قائل: "إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب، وصناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن، ونهج البلاغة". ونوه بإعجاب طائفة من نوابغ الفرنجة أمثال كارليل وولز وتولستوي ومونتيه بالقرآن الشريف وبعبقرية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ثم انتقل إلى موضوع دهشة الأولين الذين قهرتهم عبقرية النبي الأمي وقرآنه فقال: "إذا قام بيننا البناء والحداد ينظمان القريض أعجبنا حسن القصيدة من جهة، وغرابة المصدر من جهة أخرى، لأنهما عاملات أميان لم يأخذا من الدراسة والكتابة حظاً. فمحمد الأمي المخاطب بآية: [{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}] ربيب البادية، وخريج حي بني سعد ينهض في أم القرى بدعوة نسخ الأنظمة، وتعديل الشرائع، وإصلاح العالم. هذا من جهة. ومن جهة أخرى: إنه أفنى قواه في معارضة أقوام سفلة، وكابد الأذى والأسى من الأفواه والأيدي، وقضى حياته في إدارة الحروب والمغازي، وهو ما بين هذه وتلك يأتي بكتاب يعجز عن مباراته بلغاء عصره ونوابغ دهره، لابد أن يدهش الناس أمره، وحق لهم أن يندهشوا، لأن الرجل الأمي قد يفوز بالعبقرية، ولكن عبقريته لابد أن تتجه إما إلى ميادين الحروب فيكون من عظماء الفاتحين، وإما تتجه إلى أندية الرأي ومجالس الشورى فيكون من كبار الساسة والدهاة. أما أن يجمع تلكما الحسنيين ويضيف إليهما نبوغاً من العلم، ونبوغاً في التشريع والقضاء، ونبوغاً في جذب عواطف الخاصة والعامة، فلم يسمع به التاريخ، ولم يسمع به الزمان. وربما عد الفن وجوده ضرباً من المحال .. إذن فالدهشة طبيعية لدى مشاهدة بطل كهذا. بطل في العلم والنظم. بطل في السياسة والفلسفة معاً. بطل في الإدارة وفي مداراة الخاصة والعامة جميعاً. بطل في التشريع والتنفيذ حتى على نفسه. بطل في كل ذلك، ثم هو فوق ذلك أمي غير متعلم. وأكثر ما يعجب فيه: أنه لم يتخصص بفن واحد من الفنون، لا في ألفاظه ونظمه، ولا في معانيه وحكمه. فبينما نراه يتصدر ببلاغة عجبي، وأمثال عذبي، إذ يجري في ميدان العلم أو مضمار الفلسفة، فيبدي من أسرار الطب والطبيعة وكائنات الأرض وكامنات السماء ونواميس الكون مالا تفي بشرحه الصحائف مما نطق به أمس وانكشف سره اليوم. ثم نراه خائضاً في تاريخ القرون الخالية والأمم البائدة، غير مستند على آثار وأسفار، ثم تأتي الحفريات والأثريات مصدقتين له وشارحتين إياه، بعد ترون وأجيال. وكذلك نراه يسن نظاماً، ويفسخ أحكاماً، غير مستند في ذلك إلى مشاورات أو مؤتمرات ولكن الظروف الأخيرة، والتجارب المتعاقبة، ومؤتمرات عصورنا الحالية تذعن له، وتعلن اتفاقها معه، ذلك عدا الأنباء الغيبية عن أحوال أفراد وأقوام. هي والله بواعث الإعجاب والدهشة العامة التي اعترت وتعتري الناس من عرب ومستعربة، كما تلوا القرآن أو تليت عليهم آياته وفسرت بيناته".
رأينا في نظرتنا السابقة نموذجاً شائقاً من التفكير والتحليل في أسلوب عصري سائغ جري به قلم العلامة هبة الدين الحسيني الشهرستاني تمهيداً لبحثه في إعجاز القرآن. يبدأ علامتنا تحليله بسؤاله: هل تحدى الرسول بالقرآن؟ ثم يقول: صدور التحدي من الرسول لأهل الصنعة أساس ينبغي ثبوته قبل أي شيء آخر، حتى يكون المعجز معجزة، وعدم التصدي بعد التحدي ملزما للخصم .. ويتبع هذا بشواهد الآيات الناطقة بالتحدي، ومنها هذه الآية: [{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "23"}] ولكن فصحاء العرب أعرضوا عن هذا التحدي المتكرر، وأحجم أبو سفيان عن تجنيد جيش من شعراء الجزيرة وأدبائها لمعارضة القرآن. بل جد في تأليف جيش من عشر آلاف لمقاتلة النبي وحزبه. وإلى جانب هذا فشل من حاولوا المعارضة. ثم نجد أمثال الوليد ولبيد والأعشى وكعب بن زهير يذعنون لسمو معاني القرآن وبلاغته، وقد كانوا معدودين أساطين البلاغة في زمنهم. وتؤثر روعة القرآن في نفوس العرب فيرفعون القصائد السبع المعلقات من حول الكعبة وهي خير ما جادت به قرائح الشعراء العباقرة أمثال امرئ القيس وطرفة ابن العبد وكعب بن زهير، وعمرو بن كلثوم، خجلا منهم وانفعالا، كالذي زين البيت بقناديل الزيت، ثم سطعت من حولهن مصابيح الكهرباء القوية على حد تعبير المؤلف. وقد حاول أفذاذ من أدباء بعد معارضة القرآن فلم يوفقوا، وذكر المؤلف عدداً منهم، ولعل أشهرهم عبد الله بن المقفع. ثم استشهد المؤلف بآراء نخبة من أعلام الفرنجة النقاد والأدباء في تقدير مزايا القرآن وإعجازه. وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى تشريح هذه المزايا. فيعد منها ثمانية وعشرين كرؤوس أقلام، ثم يتناول وجوه الإعجاز على المحك، ويقارن بين الشهامة الفارسية في امتيازها، والقرآن العربي في إعجازه على سبيل المثال. ثم يذكر النظريات السبع للعلماء في وجه الإعجاز، وأهمها صدور القرآن من أمي، وبلاغته الفائقة، وغرابة أسلوبه، وأنباؤه الغريبة الصادقة. وحري بنا أن نذكر هنا مع ذلك المزايا الإجمالية التي سردها المؤلف لمزايا القرآن، ألا وهي: (1) فصاحة ألفاظه الجامعة لكل شرائطها. (2) بلاغته بالمعنى أي موافقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبا عن المقام، أو بلاغته الذوقية المعنوية. (3) مسحه البداوة، أي عروبة العبارات الممثلة لسذاجة البداوة مع اشتمالها على بسائط الحضارة. (4) توافر المحاسن الطبيعية فوق المحاسن البديعية. (5) إيجاز بالغ حد الإعجاز بدون أن يخل بالمقصود. (6) إطناب غير ممل في مكرراته. (7) سمو المعنى وعلو المرمي في قصد الكمال الأسمى. (8) طلاوة أساليبه الفطرية ومقاطعه المبهجة، وأوزانه المتنوعة. (9) فواصله الحسنى وأسجاعه الفطرية. (01) أنباؤه الغيبية وأخباره عن كوامن الزمان وخفايا الأمور. (11) أسرار علمية لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن إلا بمعونة الأدوات الدقيقة، والآلات الرقيقة المستحدثة. (21) غوامض أحوال المجتمع، وآداب أخلاقية تهذب الأفراد، وتصلح شئون العائلات. (31) قوانين حكيمة في فقه تشريعي فوق ما في التوراة والإنجيل وكتب الشرائع الأخرى. (41) سلامته من التعارض والتناقض والاختلاف. (51) خلوصه من تنافر الحروف وتنافي المقاصد. (61) ظهوره على لسان بدوي أمي لم يعرف الدراسة، ولا ألف محاضرة العلماء ولا جاب المالك سائحاً مستكملا. (71) طراوته في كل زمن وكونه غضاً طريا كلما تلي وأينما تلي. (81) اشتماله على السهل الممتنع الذي يعد في الشعر ملاك الإعجاز والتفوق النهائي. (91) قوة عباراته لتحمل الوجوه وتشابه المعاني. (02) قصصه الحلوة وكشوفه التاريخية من حوادث القرون الخالية. (12) أمثاله الحسنى التي تجعل المعقول محسوساً وتجعل الغائب عن الذهن حاضراً لديه. (22) معارفه الإلهية كأحسن كتاب في علم اللاهوت، وكشف أسرار عالم الملكوت، وأوسع سفر من مراحل المبدأ والمعاد. (32) خطاباته البديعية وطرق إقناعه الفذة. (42) تعاليمه العسكرية ومناهجه في سبيل الصلح وفنون الحرب. (52) سلامته من الخرافات والأباطيل التي من شأنها إجهاز العلم عليها كلما تكاملت أصوله وفروعه. (62) قوة الحجة وتفوق المنطق. (72) اشتماله على الرموز في فواتح السور، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها. (82) جذباته الروحية الخلابة للألباب، الساحرة للعقول، الفتانة للنفوس. ولكن اختيار المؤلف يقع على الوجه الأخير إلى جانب بلاغة القرآن الجامعة فهما عنده وجه الإعجاز المقصود في آيات التحدي. ولعل من الأصوب أن يضاف إلى ذلك تضمنه الأسس لشريعة إنسانية صالحة لكل زمان ومكان. وهاك هذه الصورة من طرائف الأدب العربي، ونحن حين نسوقها نعلم أنها تضمنت وقائع من نسج الخيال، بيد أن الرمز الذي يتألق فيها يشير إلى المنزلة الجلية التي كونها القرآن في النفوس، ويشرح كيف نفذ بيانه إلى شغاف القلوب ثم استقر. وهذه الصورة من رواية صاحب الأمالي: حدثنا أبو بكر قال: حدثني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: كان خنافر بن التوأم الحميري وكان قد أوتي بسطة في الجسم وسعة في المال وكان عاتيا. فلما وفدت وفود اليمن على النبي صلى الله عليه وسلم وظهر الإسلام، أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشجر، فحالف جودان بن يحيى الفرضمي وكان سيداً منيعاً، ونزل بواد من أودية السحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين. قال "خنافر" وكان "رئيي" (شيطان يشبه شياطين الشعراء) في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وسأني ذلك. فبينما أنا ليلة بذلك الوادي نائم، إذ هوى هوي العقاب .. قلت من؟ فقال خنافر؟ فقلت شصار؟ فقال اسمع أقل. قلت: قل أسمع، فقال: عه تغنم. لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول. انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل! إنك سجير "يعني صديق" موصول والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشام نفراً من آل العذام "الجن" حكاماً على الحكام، يذبرون "يقرأون" ذا رونق من الكلام ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت "أي منعت". فقلت: بم تهينمون والإم تعتزون؟ قالو: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار. فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مصر، من أهل المدر ابتعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجاً قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر. قلت: ومن هذا المبعوث من مصر؟ قال: احمد خير البشر. فإن آمنت أعطيت البشر "يعني الخير" وإن خالفت أصليت سقر. فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر وإلا فهو الفراق لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الأحرين "صحراء حول المدينة" والنفر اليمانين، أهل الماء والطين. قلت: أوضح! قال: إلحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل. ثم أملس عني "يعني ذهب" فبت مذعوراً أراعي الصباح. فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت "يعني أعلمت" أعبدي، واحتملت أهلي، حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها. وأقبلت أريد صنعاء فأصبت بها معاذ بن جبل أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلمني سوراً من القرآن فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة، وقلت في ذلك: ألم تر أن الله عاد بفضله وكشف لي عن حجمتي عماهما دعاني شصار للتي لو رفضتها فأصبحت والإسلام حشو جوانحي وكان مصلي من هديت برشده نجوت بحمد الله من كل قحمة وقد أمنتني بعد ذاك يحابر فمن مبلغ فتيان قومي ألوكة عليكم سواء القصد لا فل حدكم فأنقذ من لفح الجحيم خنافرا وأوضح لي نهجي وقد كان دائراً لأصليت جمرا من لظى الهوب واهرا وجانبت من أمسي عن الحق نافرا فلله مغو عاد بالرشد آمرا تؤرث هلكاً يوم شايعت شاصرا بما كنت أغشى المنديات يحابرا بأني من أقتال من كان كافرا فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا
|
| |
|
esraa talaat نائب المدير العام
عدد المساهمات : 3273 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 3512 تاريخ التسجيل : 06/02/2011 العمر : 32
بطاقة الشخصية لعبه: ســــوره: (0/0)
| موضوع: رد: كتاب ليله القدر 05/08/11, 06:50 pm | |
| | |
|
جمال عبدالحي Admin
عدد المساهمات : 5200 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 6222 تاريخ التسجيل : 04/10/2010 العمر : 30
بطاقة الشخصية لعبه: كابتن جمي ســــوره: (0/0)
| موضوع: رد: كتاب ليله القدر 07/08/11, 07:07 pm | |
| العفو و | |
|
esraa talaat نائب المدير العام
عدد المساهمات : 3273 النقط اللى حصلت عليها فى منتدى بحبك يا : 3512 تاريخ التسجيل : 06/02/2011 العمر : 32
بطاقة الشخصية لعبه: ســــوره: (0/0)
| موضوع: رد: كتاب ليله القدر 08/08/11, 10:25 am | |
| | |
|