انا عن نفسى قريت الكلام دة
انـشـــقـاق القـــمـر
تحدث أهل السيَر والتاريخ عن انشقاق القمر في زمن النبي ورأوا فيه آية من آيات رسول الله ومعجزة من معجزاته النيرة. جاء ذكر هذه الواقعة الخارقة في عدد كبير من الأحاديث التي توصف بالصحيحة والحسنة، وفيها أن مشركي قريش تحدّوا محمد بأن يظهر آية تثبت صدقه في ما يقول، وخصصوا بالذكر أن يشقّ لهم القمر ليشهدوا له بالرسالة، فانشق القمر شقّتين، وقال الرسول لهم: اشهدوا، فقالوا: سحر محمد أعيننا، وعاندوا وكابروا. تناقل الرواة المسلمون هذه الواقعة وأجمعوا على وقوعها في زمن الرسول، ووجدت هذه المعجزة ترجمتها التشكيلية في منمنمة فارسية استثنائية تزيّن صفحة من مخطوط عنوانه "فالنامة"، يعود إلى القرن السادس عشر، وهو من محفوظات مكتبة ساكسون في مدينة درسد الألمانية.
نقل كبار المفسرين عددا كبيراً من الأحاديث التي تناولت معجزة انشقاق القمر، في شرحهم الآيات الأولى من سورة القمر، منها المختصر ومنها الطويل. في خبر نقله القرطبي: "اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا: نعم. وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينادي المشركين: يا فلان يا فلان اشهدوا".
وفقاً لما نقله الواقدي في "عيون الأثر في المغازي والسير"، اتهم كفّار قريش محمد بالكفر، "فقال رجل منهم: إن محمداً إن كان سحر القمر، فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا. فسألوا، فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك". وبعث أبو جهل بمن يسأل أهل الآفاق إن كانوا قد رأوا القمر منشقاً، فقالوا: نعم قد رأينا، فقال الكفّار: "هذا سحر مستمر". ويجد المفسرون في هذه الرواية تفسيرا لما ورد في سورة القمر: "اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر".
فوق الجبل
في التقليد الإسلامي الشائع، وقعت معجزة انشقاق القمر فوق جبل أبي قبيس، وهو جبل مطل على مكة يُستجاب فيه الدعاء، "تزعم العوام ان من أكل عليه الرأس المشوي يأمن من وجع الرأس، وكثير من الناس يفعلون ذلك والله أعلم بصحته"، على ما كتب الإمام القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد"، في القرن الثالث عشر الميلادي. في كتاب "تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام"، يؤكد ابن الضياء ارتباط اسم هذا الجبل بواقعة الانشقاق، إلا أنه يشير الى أنه لم ير ما يدل على ذلك، نظراً الى اختلاف الأحاديث في تحديد موضع المعجزة. "ففي مسند عبد حميد والترمزي عن أنس أنه وقع بمكة. وفي صحيح مسلم حديث ابن مسعود أنه وقع بمنى. وفي تفسير ابن عطية، قال ابن مسعود: رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء".
جاء ذكر انشقاق القمر في عدد كبير من الأحاديث المتواترة من طرق متعددة، منها ما أخرجه البخاري ومسلم والترمزي. جاءت واقعة شق القمر في هذه الأحاديث على لسان عدد غير قليل من الصحابة منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين. وقد استعاد ابن كثير في "البداية والنهاية" أهم هذه الأحاديث التي وردت في أغلبها بشكل موجز. في رواية تنسب إلى ابن عباس نقلها الإمام المؤرخ عن الحافظ أبو نعيم: "اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود ابن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث ونظراؤهم، فقالوا للنبي: إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان. فقال لهم النبي: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا : نعم. وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر وقد سلب نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله ينادي: يا أبا سلمة بن عبد الاسد، والارقم بن الارقم، اشهدوا". وفي رواية ثانية عن ابن عباس: "انتهى أهل مكة إلى رسول الله فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبرائيل، فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة، فسَيروا آية إن انتفعوا بها. فأخبرهم رسول الله بمقالة جبرائيل، فخرجوا ليلة الشق، ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا ونصفا على المروة. فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا، فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر واهب".
وفي رواية ثالثة رواها الضحاك عن ابن عباس، جاء أحبار اليهود إلى الرسول وسألوه أن يريهم آية يؤمنون بها، فسأل النبي ربه، فأراهم القمر قد انشق إلى جزءين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة. وظل القمر على هذه الحال من العصر إلى الليل، ثم غاب، فقالوا: "هذا سحر مفترى".
وجه القمر
تحضر معجزة شق القمر في منمنمة تزيّن نسخة من "فالنامة"، والكتاب من المؤلفات التي تستعيد تاريخ الرسل وتغوص في عالم الغيب، ويُنسب عادة الى الإمام جعفر الصادق. تعود هذه النسخة إلى القرن السادس عشر، وهي من محفوظات مكتبة ساكسون في مدينة درسدن الألمانية. على ظهر الورقة الرابعة عشرة، يظهر الرسول أمام جمع من ثمانية أشخاص، تجمع أربعة منهم من حوله، بينما وقف الأربعة الآخرون من خلف الهضبة التي تحتل القسم الخلفي من الصورة. يخفي الرسام وجه النبي خلف حجاب أبيض إكراماً وإجلالاً له، بينما تبدو وجوه الشهود الثمانية بملامحها الكاملة، مما يُسقط مقولة التحريم. من جهة أخرى، يخص المصوّر الرسول دون سواه بهالة ذهبية من اللهب، هي في قاموس الفن الإسلامي الفارسي رمز النبوة.
يرفع محمد ذراعه اليمنى نحو الأعلى ويرسم بيده الإشارة التي ترمز في الفن الروماني القديم إلى المخاطبة، وقد تبنّى الفن المسيحي في بدايته هذه الحركة وجعل منها تعبيراً عن فعل المباركة. يشير الرسول بأصبعين مرفوعتين من يمناه إلى القمر الذي تأنسن واتخذ ملامح بشرية، وفقا لتقليد قديم ورثته المسيحية في القرون الأولى. ينقسم الوجه القمري جزءين متساويين، وفي الحديث الذي ورد في صيغ عديدة، "انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل، وفلقة دونه". الأسلوب فارسي بامتياز. يجنح الرسام نحو التسطيح ويُسقط البعد الثالث. السماء مسافة مسطحة من الأزرق النيلي تزينها شبكة من النجوم والدوائر البيضاء. يرتدي القريشيون لباس أكابر الدولة الصفوية ويرفعون أعينهم في اتجاه الأعلى. هنا شاهد يرفع إصبعه نحو ثغره تعبيراً عن دهشته، وهناك شاهد ثان يشير بيده إلى القمر الذي انشق. يتردّد صدى كلمات الرسول: "اللهم! اشهد"، "اشهدوا. اشهدوا".
06/03/11, 05:38 pm
